السبت، 3 أغسطس 2019

يوميات رجل غير مهزوم

لم يحدث أبداً
 أن أحببت بهذا العمق
 لم يحدث لم يحدث أبداً 
أنّي سافرت مع امرأةً لبلاد الشّوق
 فأنا في الماضي لم أعشق بل كنت أمثّل دور العشق
 لم يحدث أبداً أن أوصلني حبّ امرأةٍ حتى الشّنق
 لم أعرف قبلك واحدةً غلبتني ، أخذت أسلحتي هزمتني
 داخل مملكتي نزعت عن وجهي أقنعتي
 لم يحدث أبداً، سيّدتي أن ذقت النّار،
 وذقت الحرق
 كوني واثقةً سيّدتي
 سيحبّك آلافٌ غيري
 وستستلمين بريد الشوق
 لكنّك لن تجدي بعدي
 رجلاً يهواك بهذا الصّدق
 لن تجدي أبداً
 لا في الغرب ولا فيالشّرق

عزيزتي.. ما سبق كتبه الزميل نزار قباني بعنوان «يوميات رجل مهزوم»، ولكني أشعر وكأنني قائد منتصر يعيش أعلى لحظات النشوة، يرفع هامته لأعلى شاكرًا الله على انتصاره الذي تجسد في شخصك، يرفع راياته احتفاءً واحتفالا وفخرًا بالنصر، فأنا الفقير انتصرت اليوم في أهم معارك الحياة.

بلى هي معركة، معركة البقاء، أؤمن أن الله خلقنا حتى لا نكون بمعزل عن بعضنا البعض، ولكني للأسف سبق وهويت العزلة التي كدت أدمنها حتى توقعت أيضًا أني سأخسر الحياة بكل ما فيها نظرًا لعزلتي.. مؤلمة هي تلك اللحظات التي كنت أحمل فيها نبأً سارًا أو تفاصيلًا دقيقة أو شغفًا أو مشاركته مع أحدهم.. ولكن كما قال محمد عبدالمعطي حجازي: «كل هذا الزحام لا أحد».

منذ حديثنا الأول، وأنا أيقنت أني وجدت ضالتي في شخصها، أخيرًا وجدت بئر الرحمة الذي سأنهل منه حتى الثمالة، ودّعت الهموم على عتبة بابها، وعاهدت الله أن أتّقيه في علاقتي بها، وفتحت لها باب قلبي بعدما مهدت لها الطريق وفرشته بالورود وزيّنته بالأنوار، وانتظرت.. وما كانت هي بخيلة، بل جادت وأكرمتني وأعطتني ما لم تعطه لأحد من قبلي.

اقرأ الآن يوميات الرجل المهزوم، وإذا كانت تلك هي الهزائم فأهلا بكل هزائم الدنيا، أهلا بها التي أحدثت ما لم يحدث أبدًا، فدائمًا بصحبتها هناك حياة مختلفة..

بصحبتها كل شيء يفتح لي أحضانه ليعانقني ويسعدني ويطيب بخاطري، بصحبتها تختفي آلام الجيوب الأنفية المؤرقة، حقًا لا أتذكر متى هددني هذا الصداع اللعين الذي طالما شكوت منه قديما.. منذ أن عرفتها لم أسقط مغشيًا عليّ كما كنت.. منذ أن أنارت حياتي حقًا لم أتذوق الظلام مطلقًا..  ماذا كنت؟ وكيف تحملت أن أكون؟ لا أعلم، ولكن ما أعلمه وعلى يقين منه أني سكأن بخير فيما «سيكون».

عزيزي نزار..
قالوا عنك شاعر الحب، وكنت دائمًا أقرأ شِعرك وأتمنى أن تأتي المرأة التي تنطبق عليها كلماتك الرقيقة الرحيمة ذات الصور البديعة، تمنيت أن تظهر المرأة التي أخضع لها فخورا، وأقترب منها حانيًا، وأعيش لها خادمًأ، وأبقى بجوارها سندًا ودعمًا، ولكن لم أظن لحظة أن كلماتك غير موفقة.. فجمال حبيبتي فاق الكلمات، فاق الصور الجمالية، فاق المحسنات البديعية، فاق الوصف.. ترى كيف أمتلك هذا الجمال وأصف نفسي بـ«المهزوم»؟ فأنا المنتصر بها.

الأحد، 31 مارس 2019

خواطر ليلية.. مأخوذة عن قصص حقيقية

1- (عن شاب ثلاثيني)عندما أخبرني الطبيب أني مصاب بهشاشة في العظام، شعرت يومها أنه نجح جزئيا في التشخيص، فأنا أعاني من هشاشة في النَفس لا العظام، نفسي أصبحت «هشّة» حقًا، أضعف الصفعات تنجح في كسرها وتترك أثرًا لا أقوى على التعافي منه، نَفسي أصبحت أضعف من الحزن والاشتياق والحب والفراق وأضعف أيضًا من الطموح، أصبحت أشبه بالزجاج الذي أصابه السرطان وانتشر فيه وتمكن منه، وأصبح ينتظر أي صدمة تمثل رصاصة الرحمة وتقضي عليه وتسقطه فتاتًا على الأرض.. حتمًا أنا مصاب بالهشاشة الآن؛ تُرى متى أصاب بالسرطان؟!
2- (عن سيدة خمسينية)الخوف يسري في محيطي كما تنتشر العفاريت في الظلام، لا أعلم مدى حقيقة وجود «عفاريت» ومدى ارتباطها بالظلام، ربما فقط هي محض هواجس ترسخت في ذهني عندما كنت طفلة صغيرة، ولكن الخوف أيضًا حال بيني وبين مواجهة تلك الهواجس، ولكني أعلم يومًا أني سأقف في الظلام وأحدث العفاريت بأعلى نبرة في صوتي وأقول لهم: «أنتم وهم»، ولكني أخشى أن أخاف.
3- (عن فتاة عشرينية)منذ رحل عني وأصبحت أعشق النوم، واعتبرته صديقي الأبدي، أصبحت أكره النظر في الساعة أو السؤال عن التوقيت فكل الأيام أصبحت تشبه لبعضها البعض، النوم أحيانًا يحاربني بسلاح الكوابيس وكأنه سأم صداقتي له، ولكني اتوسل له أن يرحمني ويحتويني مجددًا؛ فربما يأتي في الأحلام.
*«عندما سألتها: تتحدثين عن من؟» قالت: «عن كل شيء اضطررت لتوديعه»
4- (عن شاب عشريني)ربما فشلت في كل شيء، ولكني نجحت في كل ما هو سيئ من وجهة نظرهم، أنا لم أضر أحدًا سوى نفسي، وأنا أيضًا الذي لم أعرف السعادة والنشوى كما عرفتها مع كل تصرف خاطئ وتجربة جديدة، في ليلة القدر الماضية تحمست للذهاب إلى المسجد وخاطبت الله عزّ وجلّ ولكني شعرت أنه لا يسمعني، ربما لأني لم أكن أبكي مثل الشخص التقي الذي وقف جانبي، وربما لأني لم أكن خاشعًا وطالما فكرت في الفتيات اللاتي ارتدين تلك العبايات السمراء الضيقة.
ربما لم أكن خاشعًا ولكن حتمًا أنا الصادق الوحيد ضمن هذا الجمع، فلم أستكمل الركعة الرابعة من صلاة التهجد، وسلمت سلام الصلاة وخرجت، لم أجد ما أريده في المسجد، ولا أعلم إلى أين أنا ذاهب أو متى سأعود للمسجد، أنا توقفت عن التخطيط منذ سنوات.
5- (عن زوجة ثلاثينية)شهادة وفاة المُحبة تصدر من عين حبيبها عندما تشتهي غيرها، لا أستطيع أن أتهمه بشيء لأنه ليس خائنًا، إنها محض نظرات شهوة وإعجاب، لقد انغمست في الحياة والواجبات المنزلية حتى فقدت عملي وأنوثتي وفقدت مظهري وجمالي تدريجيا، تارة بعد تارة أصبحت أشبه والدتي وخالتي واعتبرت رسالتي في الدنيا تقتصر على إدارة شؤون الأسرة، ولكني أفتقد نظراته للبنات المحيطات به، أحتاج تلك النظرة وبشدة، أعلم أن جسدي لم يعد بالممشوق، ربما أيضًا قدرتي الجنسية انخفضت وأصبحت علاقاتنا متباعدة، أصبحت أكره جسدي وأتجنب النظر له في المرآة.
قاطعتها: «لماذا لا تحملينه الخطأ هو؟ ولماذا لا تتحدثين معه بشان تلك الهواجس؟»
ردت بائسة: «الكلام فقد رونقه مثلما فقدت حياتنا رونقها.. وأيضًا تعودت أن أحمل نفسي الخطأ حتى أصبحت تلك هي ميزتي الأخيرة في نظره».

ما وراء الإهداء

الساعة 4.30 فجرًا
ها هي الصلاة المقربة إلى قلبي، أفتخر بنفسي كثيرًا عندما أصلي ركعتي الفجر، أشعر وكأني حققت إنجازًا يستحق الاحتفاء، أستغل كل لحظة حتى أتقرب من الله أكثر، وأتحدث معه بحرية دون قيود بعيدًا عن المجتمع الذي يسيء فهمي.
ما أن أنهيت الركعة الأولى وركعت خاضعًا خاشعًا أسبح: «سبحان ربي العظيم - سبحان ربي العظيم - سبحان ربي العظيم»، ثم هممت أن أدعو لنفسي ولأهلي ولكل من يخطر ببالي، ولكني سرعان ما وجدتني أتحدث مع الله متخليًا عن عباءة الفصحى الوقورة وأقول له: «يارب الهدية تعجبها.. يارب الهدية تعجبها.. يارب الهدية تعجبها.. يارب الهدية تعجبها».
يقطع خشوفي صوت الإمام الذي يقول: «سمع الله لمن حمده»، أتأمل في هذا القول، وأدرك أن الله وملائكته الآن يسمعونني، فأقول: «الحمد لله على نعمة صداقتها.. يارب الهدية تعجبها..يارب الهدية تعجبها»، ثم أقاطع نفسي متعجبًا: «أنت هتخلص الصلاة كلها في الدعوة دي؟»!
آنذاك استكملت الصلاة ساجدًا أصلي: «سبحان ربي الأعلى.. سبحان ربي الأعلى.. سبحان ربي الأعلى.. اللهم أغفر ذنوبنا.. وتقبل صلاتنا.. واشملنا برحمتك يا أرحم الراحمين.. ولا تجعل بيننا مريضًا ولا متألمًا إلا وأنزلت السكينة على قلبه.. ويارب الهدية تعجبها.. يارب الهدية تعجبها.. يارب الهدية تعجبها.. يارب الهدية تعجبها».
الركعة الثانية.. ولكنها ليست آخر الفرص التي سأتحدث فيها مع الله، ما الغريب في دعوتي؟ الغريب حقًا أنني لم أتعجب من نفسي قيد أنملة، لم أقل لنفسي: «ماذا تقول لربك؟».
أنت تعلم يا الله قدر ضعفي، وتعلم أنني أستمد قوتي وصلابتي من المحيطين بي، وتعلم كم تعلمت منها ونظرت لها كمثل أعلى بل وهدف تمنيت أن أصل له، وكمكتبة مليئة بالأسرار والمعلومات والقصص ربما أود الارتماء بين جوانبها متناسيا كل شيء لأنهل ما أستطيع من قيمة.
أنت تعلم يا الله قيمتها في نظري، وها أنا اليوم على مشارف إعداد مفاجأة ربما قد تجدها انتهكت خصوصيتها ووضعتها تحت العدسة المكبرة، ولكنها محض رسالة لأن تكتب وتكتب وتكتب، فهي لابد أن تكتب وتوثق ما تمر به ونحن نقرأ ونصفق ونمتن في صمت.
لذلك.. سأكمل صلاتي داعيًا نفس الدعوة، لقد دعوت سابقًا لكثيرين غيرها، أما الآن فلن أدعو سوى بشيء واحد فقط: «يارب الهدية تعجبها.. يارب الهدية تعجبها.. يارب الهدية تعجبها».
3 كلمات مغلفات بأكثر من 3000 كلمة، فأتمنى أن تكون الهدية هي شريان الأخوة الساري، وعربون المحبة الأبدي، وميثاق الصداقة الممتد، وعسى أن تحمسها مجددًا على الكتابة وممارسة الطقس الأقرب إلى قلبي وحتمًا إلى قلبها.
السلام عليكم ورحمة الله.. السلام عليكم ورحمة الله.

الساعة 10.30 صباحا
أستيقظ من نوم متقطع، أنظر إلى الهاتف منتظرًا رسالتها التي تؤكد فيها الموعد، ولكني لا أجد شيئًا، أحاول أن أنام ولكني أرغب في النظر إلى الهدية مرة أخرى، فتحت الهدية ومررت بعيني على كل السطور والكلمات..
نظرت إلى التاريخ الخاطئ الذي كتبته «يوليو 2019»؛ للأسف هذه الخاطرة مهمة للغاية ولن أستطيع التنازل عنها، ولا أملك وقتًا لأعيد طباعتها، ولا أرغب في تشويه الصفحة وتصحيحها يدويًا.. ماذا أفعل؟!! أين كان مخي وهو يكتب تاريخًا لم يأت حتى الآن!
سأعترف لها، وقد تكون هذه إشارة ودرس من الرب بأن الكمال له وحده، وسأركز مستقبلًا في ألا أقع في هذا الخطأ مجددًا.

الساعة 12 ظهرًا
في طريق القاهرة الزراعي، لم أكن أتخيل سوء الأحوال الجوية، وتوقعت أن صلاتي لم تُقبل، فيبدو أنها لن تكون في العمل اليوم، كيف تقود سيارتها في هذا الطقس؟!
نظرت إلى الهاتف مرة أخرى، فلم أجد منها أية إشارة إلى تأكيد الموعد المرتقب.. نظرت إلى الهدية بين يدي ثم قلت لنفسي: «لا بأس.. سأصلي فجر اليوم مجددًا لأحصل على وقت إضافي وأدعو مجددًا.. يارب الهدية تعجبها».


الساعة 1 ظهرًا
الموعد بات مؤكدًا، فهي وصلت القاهرة بسلامة الله، ها هي ساعات قد تفصلني عن موقف مصيري، إما أن أكون قدمت إهداءً خاصًا، أو أن أصبح ثمة شخص متطفل مُراقب يوثق ما لا يعنيه..
احترت قليلا حتى كدت أسحب الإهداء، ولكني تشجعت ودعوت الله مجددًا: «يارب الهدية تعجبها».


الساعة 3 عصرًا
أسلم على الجميع في عَجَل، أتطلع لإنهاء كل الأحاديث الروتينية، أتهيأ لتقديم الإهداء المصيري، أدخل مكتبها بعد طرق خفيف -أسعى أن يكون مميزًا على باب مكتبها- لأجدها مرهقة، لجزء من الثانية أتأمل ملامحها التي يبدو أنها حُرمت من النوم.
وراء هذا الإرهاق، مشقة عصيبة، أدرك الليالي التي سهرتها كرفيقة لشقيقتها المريضة، وأردك دوامات القلق والتساؤلات التي تدور في ذهنها بشأن حالتها الصحية، أعلم تماما كم تبذل جهدًا لتصبح في غاية القوة والتماسك، قلبي معكِ يا عزيزتي.
ومثلما أدركت هذا القدر من المعاناة، اليوم أدرك فصلا جديدا من الكرم والرُقي، فهي أيضًا عزمت أن نفطر سويًا، واختارت لي فطورًا جميلًا بسيط كما هي.
تشجعت وقدمت إهدائي، ولم أكن أعلم أن الله وملائكته سيجبرون بخاطري هكذا، طالما نظرت للسماء بعد صلاة الفجر وكأني أرى الملائكة تلوّح لي، وفي هذا اليوم كانت الملائكة أكثر من المعتاد.. كذلك كان رد فعلها.. بريء ملائكي بسيط سمح.
سعادتي بلغت بُعد السماء وكِبر البحر مثلما ادعت فيروز، سعادتي لم تكن سعادة مؤقتة أبدًا، كيف لا أسعد وأنا أسمعها تقول إنها تستعيد قراءة المحادثات الخاصة بنا، وأنها ستصنف الهدية كأحد أفضل الهدايا على الإطلاق، وأنها ستشاركني قراءة خواطر خاصة بها لم تفصح عنها للعلن، وأنها ستلبي طلبي وتكتب بل وتسمح لي بأن أهديها دفترًا جديدًا حال أنهت هذا..
شكرًا يا رب.. شكرًا فالهدية أعجبتها.

الساعة 6.30 مساءً
بعدما أنتهي من أحد الواجبات الاجتماعية، أفتح هاتفي لأجد رسالتها تحمل قدرًا وفيرًا من المحبة والود، تكرمني بقولها إننا متشابهين، تبشرني بأننا سنظل صديقين أبديين، يا بركة صلاة الفجر، أعرف كونها صلاة شاقة على قلوب الكثيرين؛ نظرًا لما بها من مجهود واستيقاظ في منتصف الليل.
ولكن على قدر المعاناة تأتي النتيجة، ومثلما تقول هي دائمًا: «هل جزاء الإحسان إلا الإحسان»، تلك الآية الكريمة من سورة الرحمن، وأشهد الله أنها رحيمة كما اسم السورة، ومُحسنة كما تقول الآية، فيا صديقتي العزيزة اليوم عليكِ أن تفتخري بنفسك وتدركين أن جزاء الإحسان لن يكون سوى إحسانا.
فربما يكون إهدائي هو إحسان من المولى عزّ وجلّ لكِ، إحسان يليق بقدرك وكرمك وجهدك ورقيك.
الحمد لله يارب.. الهدية عجبتها.

الساعة 11.30 مساءً
قبيل نهاية اليوم.. أقف أمام رسالتها عاجزًا لا أستطيع أن أرد على هذا القدر من الكرم.. حاولت كثيرًا ولكني فشلت؛ لذلك قررت أن أحكي لكِ جزءًا صغيرًا من كواليس هذا الدفتر.




أشكرك بأسمى آيات الشكر.

الأحد، 10 فبراير 2019

كفاك الله شر الوحدة

(1)
لم يكن عبوسًا على الإطلاق، ولكن ابتسامته كانت عزيزة مثل نِفسه..
«نِفسه عزيزة».. هذا الوصف الذي يلائمه دومًا، فعِزة نفسه كانت أسمى ما يمتلك؛ لم يتسول يومًا شيئًا حتى التعاطف.
كثيرًا ما صليت الفجر معه، وسمعته يدعو الله متضرعًا أن يغنيه عن الناس، ويغنيه بحلاله عن حرامه، ويغنيه عن كل تجربة، ويغنيه عن كل المُتع الزائفة.

(2)
تلك الابتسامة البسيطة التي زيَنت وجهه ذو التفاصيل البسيطة، كنت دائمًا أرى أن الله رزقه وجهًا طيّبًا، ولم لا يرزقه ذلك وهو يقول إن جزاء الإحسان حتمًا سيكون إحسانا.. وذلك الرجل المُخلص لم يكن مُسيئًا قط، فهو أحسن المُحسنين، وحتمًا أحسن الله إليه.
نظر إليّ مُبستمًا ابتسامته التي قد لا تنم عن السعادة، ربما تشير إلى التعجب أو التفكير أو الرضا.

(3)
أطلق تلك الابتسامة، عندما رويت له موقفًا جمعني بشقيقه الذي يكبره بعامين، لم أكن أتخيل أن ثمة حوار قد يحدث بيني وبين ذلك الرجل الوقور، فهو طالما ظل رمزًا روتينيًا بالنسبة لي، اكتفيت بصلة الرحم التي تجمعنا والصورة الوقورة التي فرضها على كل من حوله.
لم أسع يومًا لاكتشاف أسرار ذاته أو التماس معاناته، لم أخطط لأن أخرجه من شرنقته التي فرضها على نفسه، وآمن بها كل من حوله.. حتى ذاك اليوم.

(4)
ذهبت له حاملًا الطعام الساخن، وطرقت الباب الذي لم أذكر متى رأيته آخر مرة، شعرت للحظة بثمة تقصير في أداء الواجبات العائلية، ولكن سرعان ما اختفى هذا الشعور تحت تبرير أن هذه هي الحياة.

(5)
فتح الباب واستقبلني بحفاوة لم تكن في مخيلتي، ربما وجد في شخصي المتواضع صغير السن جليسًا يستهلك معه دقائق اليوم التي حتمًا هي رتيبة في هذا المنزل.
كان وحيدًا في بيته، شعرت أنه فقد كل حواسه فلم يرّ ما حوله من كتب أو ما يُعرض على شاشة التلفاز أمامه، كما لم يسمع الصوت المزعج للسيارات التي استكثرت عليه الهدوء، ولم يشتم رائحة الطعام الساخن التي فاحت في أنحاء غرفة معيشته.

(6)
تجاذبنا أطراف الحديث في كل شيء، الأدب والشِعر والسياسة، والثورة التي أخطأت المسار، والظلم الذي حتمًا سينتهي وينقضي.
تعجبت من الحصيلة الثقافية التي يمتلكها، وتعجبت أيضًا من الموقف ككل.

(7)
استفهامات عديدة دارت بذهني بعد انتهاء الزيارة.. كيف لي أن أناقشه وأناطحه؟ كيف تنازل هو عن رونقه وهالته أمامي؟ كيف كان مُستمعًا جيدًا لكل ما أروي أو أقول؟ كيف اقتنع برأيي الهزيل متناسيًا فارق الخبرة والعُمر؟ كيف كان يمتلك هذا القدر من الثقافة ولم أتعلم منه شيئًا؟ كيف سمح لي بأن أكون شريكه في نقاشات فكرية؟

(8)
عدت إلى منزلي.. ورويت القصة بكل تفاصيلها. لم أخف تعجبي.. كم كانت مفاجأة سارة أن يخلع هذا الوقور عباءة الرسمية ويتحدث لي كصديق من نفس عمره؟ حقًا أنا ممتن لتلك المناقشة التي أتذكر جيدًا أنها استغرقت 60 دقيقة، دارت فيها عقارب الساعة دورة كاملة؛ ذكرتني بضرورة إنهاء اللقاء وتركه لوجبة الغذاء التي افتقدت سخونتها الفاتحة للشهية.

(9)
تمسك أكثر بأطراف عبائته السمراء الصوف، تلك التي اعتدت رؤيتها تحتضنه وتحتويه في فصل الشتاء، ثم أطلق ابتسامته الساحرة وصمت قليلًا وقال لي: «كفاك الله يا بُني شرّ الوحدة».
هي الوحدة.. المشنقة التي تُعلق عليها الأرواح مودعة عالمًا لم يكن هو المرجو، وتاركة كل المُتع الزائفة، وزاهدة فيما تبقى من دقات قلبية تضخ سويعات الحياة في عروق صاحبها.

(10)
الآن.. أفتقد كلاهما؛ الأول ترك عالمنا بجسده وروحه، والآخر عدت للاستسلام إلى وقاره وعزلته الاختيارية.. ولكني أدعي لهما كثيرًا بأن يكفيهما الله شر الوحدة.