الجمعة، 23 أكتوبر 2015

الحفلة على الطفلة

فيروس «الامتهان» أصاب كل شيء في مصر.. أصبحنا نعاني من امتهان في كل قطاعات الحياة، في الصحة والتعليم والبحث العلمي والمرور والتموين والثقافة وحقوق الإنسان إلخ 
..
لكن هذا الفيروس تفشى في جسد «الطفولة» وتمكن منها وكاد أن يحولها إلى «جثة هامدة».. وإذا فسدت الطفولة فسد المستقبل بأكمله.
الفساد أصاب الطفولة بداية من ذهاب الطفل للعمل في ورش الميكانيكة، وصالونات الحلاقة، والمطاعم، وما شابه تلك الوظائف، التي يعتبر الطفل فيها مجرد «خادم» يرتضي بالامتهان والسباب والعمل الشاق مقابل الحصول على جنيهات معدودة في نهاية اليوم، وللأسف نجد الجُهّال من أولياء الأمور يسعدون بعمل أبنائهم تحت عار «خلي الواد يتعلم له صنعة، خلي الواد يساعد في البيت، خلي الواد يبقى راجل»
منذ أيام.. انتشر فيديو على أحد المواقع الإخبارية، لفتاة صغيرة ترقص وهي تحمل «سنجة» وتضعها في فمها.. وفي اليوم التالي لانتشار الفيديو ظهر الإعلامي وائل الإبراشي في حلقة من برنامجه «العاشرة مساءً» لمحاولة إنقاذ المجتمع المصري من تلك الظاهرة السلبية؛ حيث استضاف الطفلة ووالدها ووالدتها، ويفتح خط المكالمات للسياسيين والجمهور الذين تحدثوا عن مدى الانحطاط الذي وصلنا له، وعن أفلام عائلة السبكي التي أفسدت الذوق العام.

ولم يكتف الإبراشي بذلك، بل تحول إلى ضابط في جهاز الأمن الوطني يستجوب متهما بالانتماء إلى جماعات تكفيرية مسلحة.. ويقول: -- كيف تسمحون لطفلة أن تمسك «سنجة» لترقص بها؟
-
هل يجب أن الطفلة تقلد كل ما تراه في التلفزيون؟
-
أي شخص سيشاهد هذا الفيديو سيسأل عن أهل الطفلة؟
-
انتِ مخفتيش يا آيات وانتِ بترقصي بالسكينة؟
-
اتكلمِ يا آيات انتِ طالعة في التلفزيون!

بالإضافة إلى العديد من المداخلات الهاتفية التي -بالتأكيد- لم تفهم الطفلة منها شيئا سوى أنها ارتكبت مصيبة عن دون قصد.
حتى بكت الطفلة وهي تنظر بتعجب للكاميرات.
والمتهمون من وجهة نظري ليسوا أهل الطفلة أو عائلة السبكي، ولكنهم «الدولة والإعلام»
الدولة التي تركت الفساد والجهل يستشريان فيها، وأهملت ملفات الفن والثقافة والعدالة الاجتماعية والعشوائيات وحقوق الإنسان والشباب، وانصب اهتمامها على مكافحة الإرهاب وتدليل رجال الأعمال في محاولة لإنعاش الاقتصاد، ولكنهم أهملوا النوع الأخطر من الإرهاب.. وهو إرهاب الفساد.. وتناسوا أن الاستثمار في المواطن هو أبقى أنواع الاستثمار،
وأرجوكم لا تحدثوني عن فساد الأنظمة السابقة.. فلقد مللت الحديث عن الإرث الثقيل.. وأتمنى الحديث عن مواجهة هذا الإرث وعلاجه.
والمتهم الأعظم والأكبر هو الإعلام.. فإذا كان أهل الطفلة «جَهَلة» فبالتأكيد القائمين على الموقع الإخباري الذي نشر الفيديو متعلمين، وبالتأكيد أغلب الأشخاص الذين نشروا الفيديو متعلمين، والإعلامي المخضرم الذي شكّل حلبة مصارعة ليكون هو بطلها الأول متعلم، وفريق إعداد الإعلامي المخضرم الذي بحث عن الطفلة وأهلها ليظهروا أمام الكاميرات من أجل صناعة لقاء ساخن يحقق نسب مشاهدة مرتفعة متعلمين؟ ولكن حقا العِلم ليس بالقدرة على القراءة والكتابة..
ولم يكتفِ الإعلام بنشر فيديو رقص الطفلة، لكن المواقع الإخبارية كلها نشرت أخبار بعنوان «طفلة الرقص بالسنجة تجهش بالبكاء على الهواء».
ما القيمة في هذا الخبر؟ ما الإضافة التي سيكتسبها القارئ من رؤية طفلة تبكي؟ ما المثير في فيديو لطفلة مذعورة تبكي أمام وابل من الهجوم غير المبرر بالنسبة لها؟

في النهاية..

أعزائي المسؤولين والقائمين على شئون الدولة.. «شوفو شغلكم»، وبدلا من استخدام سلطة حظر النشر في القضايا الحساسة، رجاء استخدامها في حماية حقوق الطفل؛ لعل وعسى نرى جيلا أفضل من الجيل الحالي، ورجاء تفعيل قانون «حماية الطفل» الذي لا أجد له أثرا أمام عمالة الأطفال يوميا، واستخدامهم في التسول والسرقة وتجارة المخدرات.
أعزائي الإعلاميين.. «كفاية إتجار.. الأطفال ملهمش ذنب»، اتركوا مساحة للأطفال من أجل عيش حياة أفضل، قدموا مواد تنويرية، قدموا من جديد «ماما نجوى وبقلظ، ودنيا الأطفال، وعالم سمسم، وقصص الأنبياء».
أعزائي المواطنين ورواد السوشيال ميديا.. أتمنى أن نكون القوى الناعمة، أتمنى أن نستمر في طريقنا نحو التغيير، صبوا غضبكم على هذا النوع الرخيص من الامتهان وادعموا الأطفال واهتموا بهم وبمشروعاتهم؛ في محاولة لبناء المستقبل الذي نتمناه.

وأخيرًا.. فيديو بكاء الطفلة أثار استيائي أكثر من فيديو رقصها.. فالواقع الذي نعيشه أجبرنا على مشاهدة المئات من الرقصات الخارجة وأعمال البلطجة، والانحطاط، لكن قلما نرى براءة ودموع خوف مثلما شاهدنا دموع آيات.


كريم البكري
elbakry4news@gmail.com
https://www.facebook.com/karim.e.bakry