الخميس، 30 يوليو 2020

إلى أبي


رغم عشقي للكتابة التي اتخذتها ملجأ ومأوى، وألقيت بهمومي في أحضان السطور والأوراق، وكثيرًا ما هربت من الدنيا وانعزلت محتضنًا دفتري الخاص لأتحدث مع نفسي على انفراد، وأكتب بلا قيود، وأعبر عما بداخلي بكل أريحية، وأرسل رسائل أعلم أنها لن تصل.. بل ربما لن تخرج إلى النور من الأساس، إلا إنني لم أجد ضالتي في الكتابة عن شخصه العظيم الكريم.

واجهت نفسي كثيرًا في ساحات الكتابة، عَبّرت عما يجول بخاطري، لم أهتم بأن أكون مُعلقًا على الأحداث، أو متماشيًا مع رغبات القرّاء والمجتمع، عاهدت نفسي أن أكون «أنا» فقط، وألا أتصنّع فيما أكتبه، وأن أنزع عن نفسي كافة الأقنعة أثناء الكتابة، وعادة ما كنت رحيمًا بنفسي، أوثق خطيئتي ثم أطلق لكلماتي العنان حتى تحنو عليّ، وترحمني في أوساط لا تعرف الرحمة.

كتبت كثيرًا ورهاني على الكتابة كان فائزًا، حتى رحل هو، ورحلت معه أشياء لم أكن أعلم أنها مُجدية ومؤثرة بهذا القدر.. أفتقد صوت خطواته على درجات سُلم بيتنا.. و«رنة الجرس» القصيرة المميزة التي تعقب فتح الباب بالمفتاح، أفتقد ساعته فضية اللون ونظارته الطبية التي كان يرتديها أثناء القراءة، وجلسته الروتينية واضعًا قدمًا فوق الأخرى، وتفاصيل وجهه المميزة المتميزة، والكلمات التي كان يتمتم بها مناجيًا الله عزّ وجلّ: «يا الله يا وليّ الصابرين – إنا لله وإنه إليه راجعون – يا ودود يا رب».


للأسف فشلت الكتابة في علاج هذا الجرح، وفشلت الكلمات والحروف في التعبير عن الحالة النفسية المعقدة التي أمر بها بعد فراق والدي، ففي الواقع لست حزينًا لدرجة تستدر عطف من حولي، ولست تائهًا بين طيات حياتي اليومية فأنا أفعل كل شيء وأحاول تأدية أدواري على أكمل وجه، ولست عاجزًا فأنا أسير وأتحرك وأستطيع الجري أيضًا، ولكن في النهاية أستطيع الجزم بأني أشعر بالفقد والافتقاد.

أفتقد الأب.. هذا الدور الذي أداه أبي على أكمل وجه، الملاذ الذي بيده حل أية مشكلة مهما كبرت، أتذكر والدي حينما كنت مراهقًا في وقال: «القي على كاهلي بأي مشكلة يمكن أن تواجهك، أنت بكل مشكلاتك ومسؤولياتك جزء أصيل فيّ، ولا ترهق نفسك أبدًا بالتفكير في أبعاد أي مشكلة، فقط أطلب من أبيك».

أفتقد الأب.. الذي يمكنني أن ألقي عليه بأية مشكلات أو أزمات مهما كّبُرت أو اشتدت، وكلي ثقة أنه سيكون كفيلًا بها، بل وخير كفيل.. فما الضرر من انفعال وقتي، أو توبيخ لحظي، في مقابل أنه لن يقبل لشيء ما أن يؤرق تفكيري.

أفتقد الأب.. الذي زرع الله بداخله اللهفة الخالصة والمحبة غير المشروطة تجاهي، فالمرء يحتاج حتمًا من حين لآخر أن يعلم مدى أهميته، وأن يلتمس المحبة غير المشروطة.

أفتقد الأب الذي لا ينام قبل وصولي المنزل، ودائمًا ما يطمئن على وضعية نومي، ويبذل قصارى جهده في «أدوار البرد» من سهر وكمدات وتقديم سوائل وفواكه ومتابعة مواعيد الدواء؛ حتى ينتشلني منها سالمًا. والفقد الذي أصابني ليس فقط فقد الأب، بل إني أفتقد «شخصه»، أفتقد السيد البكري، الشخصية الاجتماعية العظيمة؛ التجسيد الحقيقي لمقولة «حب لأخيك ما تحب لنفسك»، فدائمًا ما كنت أجد أبي يهتم بالآخرين أكثر مما يفكر في نفسه.

أفتقد السيد البكري.. المثقف الذي لم يكن يومًا متباهيًا بهذا القدر المهول من الكتب التي امتلكها.. في يوم ما، ذهبت له حاملًا أحد الكتب المنشورة حديثًا، طرأت على ملامح وجهه السعادة والانبهار وكأنه كان ينتظر قراءة هذا الكتاب، ثم سألني: «كم سعره؟».. ثم تبع إجابتي بسؤال آخر: «هل هذه النسخة المضروبة؟ المزيفة يعني؟»؛ فأجبت غير آسف: «نعم.. الأصلية باهظة الثمن»؛ انطفأت السعادة في وجهه، وحل محلها حسرة وضيق، وأغلق الكتاب وحذرني من الانسياق وراء هذه النسخ، وقال لي: «ما يسببه لك الكتاب أكثر بكثير من قيمة المال.. لا تستخسر في الكتاب مالًا يا بني وإن لم يكن معك ما يكفي؛ أطلب مني».

واليوم بعد سنوات طويلة، أجد ثورة المثقفين ودور النشر ضد انتهاك حقوق الملكية الفكرية؛ فأتذكر أبي وكلماته، وأتمنى أن أكون مثقفًا في الجوهر والمظهر والسلوك، مثله تماما.. ولكن هل أستطيع؟ أفتقد السيد البكري.. الذي يمكنني الجلوس أمامه طارحًا أي موضوع للنقاش، وأستمتع بنظرته التحليلية للأمور، وأسعد عندما يترك لي مساحة لأخالفه الرأي، فمن هنا تعلمت أن النقاش غاية في مضمونه أكثر من كونه وسيلة لينتصر طرف على الآخر.

أفتقد السيد البكري.. الذي طالما وجدته متفانيًا في أدوار اجتماعية مرهقة سألت نفسي مرارا وتكرارا عن جدواها.. وفي النهاية أدركت أن أبي لم يستفد شيئا سوى احترامه لذاته ورضاه عن نفسه، ومن ثَم ترك سيرة عطرة تعقب ذكر اسمه؛ لأدرك أن أبي كان بصيرًا بما لم أبصره، أبي نظر لإحياء اسمه بعدما يأتي وقت تنتهي فيه الحياة.

في غياب أبي.. أشعر وكأني «مجبر» على تحمل واقع سيئ، مجبر على الرضا بغياب العمود الفقري لحياتي، مجبر على التنازل عن رغبات كثيرة لي الحق فيها، مجبر على التخلي عن صور ورؤى وأحلام كُتِب لها عدم الاكتمال نظرًا لعدم وجود أبي. 



*****




توفي أبي وأنا أتحسس خطواتي العشرينية، آنذاك كنت طالبًا في كلية ليست ككليات القمة التي فشلت في الالتحاق بها؛ مسببًا بذلك ألم دفين داخل نفس أبي وأمي اللذان لم يقصرا في دعمي على المستوى الدراسي، كل الأشياء التي يجب توفيرها لطالب ثانوية عامة حصلت عليها، دروس خصوصية ومناخ هادئ ومجموعات للمراجعة ومصروفات باهظة وكل شيء، كذلك أشهد الله أنني بذلت الجهد اللازم ولكن في النهاية أتت الرياح بما لا تشتهي السفن، وشعرت كأني خذلت والدي الذي لا يستحق الخذلان في الحياة.


ومع السنة الجامعية الأولى، لم يقف أبي عائقًا أمام رغباتي الجامحة في التجربة؛ فجربت كل شيء.. العمل التطوعي والخدمي، ثم العمل السياسي والانضمام إلى الساحة المكتظة بالآمال والعنفوان فيما بعد ثورة يناير، فضلا عن الدورات التدريبية وكورسات اللغة، إلى أن انتهى بي فيضان الجموح على شاطئ مهنة الصحافة.. فاخترت أن أكون صحافيًا، وعاهدت الله أن أتمسك بالفرصة وألا أهدرها، وعاهدت مديري المباشر أن أعمل بنصيحته: «ادي للمهنة كتير.. علشان المهنة تديلك لو صبرت».

قد يكون صبري تكلل بالنجاح –من وجهة نظري- على المستوى المهني، ولكن حتمًا لم يكلل بالسعادة التي أطمح لها، فحتمًا سلسلة أي نجاح تفتقد الحلقة الأهم؛ ألا وهي وجود أبي ومشاركته، فأبي رحل تاركًا خلفه ابنًا شابًا جامحًا لا يعلم أين الطريق وإلى أين المسير.. أبويا رحل خائفًا عليّ، لم يشهد لحظات نجاح عديدة تمنيته فيها أول المهنئين.

أبي رحل قبل أن يرى اسمي على موضوعات صحفية أفخر بها، رحل قبل أن أكتب مقالا وينشر بمجلة أو جريدة أو موقع إلكتروني، رحل ولم يدرك أنني سأتعرف على ساسة كبار كان يحب متابعتهم عبر التلفاز، رحل ولم يشهدني وأنا كاتبًا في جريدة المقال مع الكاتب إبراهيم عيسى كاتبه المفضل الذي حرص أبي دائمًا على متابعة إصداراته الصحفية، رحل ولم يقرأ حواري مع الدكتور محمد غنيم رائد زراعة الكلى والسياسي المرموق والذي حضرنا له أكثر من ندوة ضمن فعاليات الجمعية الوطنية للتغيير عام 2010، أبي رحل قبل أن أستشيره في أمور عديدة، وقبل أن أناقشه في أمور جدلية وفقهية يرفض المجتمع الحديث فيها، ورحل قبل أن أهديه عملي الإبداعي الأول وأرى في عينيه نظرة الفخر الممزوجة بالانبهار التي طالما حلمت بها.

أدرك تمام الإدراك أن هذه هي سُنة الحياة، ولكنها سُنة قاسية، فأنا لم أتطلع يومًا إلى شيء مادي أو منصب مرموق، كل ما يرهقني حقًا هو ألم الفقد والافتقاد، لماذا كُتب عليّ أن تفتقد كل المتع والإنجازات شيئًا مهما.. لما كُتب أن أفتقد أبي.. نسأل الله الصبر. 


*****



«أب وقال لابنه: تعالى هنا يابني
هقولك كلمتين حافظ عليهم يابني
العمر ولَّى وراح والشيب آتاني يابني
صون حُرمة الناس تتصان حُرمِتك يابني
متجريش ورا الشر ده عقبه ندم يابني
من جاور الحداد يتلسع بناره يابني
مادام أساسك متين هتعلي البُنا وتبني
سِلِمة ورا سِلِمة لغاية ما توصل يا ابني
أنا ألبِس الخيش والبَّس حرير لابني
وأحب ابني أوي إن كان في القسمة غالبني
أنا كل ما أقسى عليه.. حنان القلب يغلبني
واللي عملته في أبويا بكره يخلصه ابني»

في إحدى حفلات فرقة «ناس مكان» للفنون الشعبية والتراثية، جلست متغاضيا عن سوء التنظيم والمسرح الأشبه بـ«حوش غير مكتمل التشطيب»، وسلّمت أذناي إلى الآلات الموسيقية وأصوات الغناء الشعبي المبهجة، التي تحرك الصخر وترسم على الوجه ابتسامة إجبارية جرّاء رشاقة الكلمات واللحن البديع وأداء المطربين الصادق الذي يجعلهم يعزفون ويرقصون ويغنون وكأنهم كُتل فنية متحركة.


إلى أن اصطدمت بالكلمات السابقة، وتوقفت أمام عبارة: «أنا ألبس الخيش.. والبّس حرير لابني»، ثم شعرت وكأن أحدهم كتم الصوت وتجمدت الصورة، تأملت في الكلمات حتى نسيت الحفل، وتبدلت ألوان البهجة بروائح الحنين لأبي الراحل، وحلّ الصمت محل الموسيقى الصاخبة، ولم أدرك شيئًا حتى خرجت من القاعة ووجدتني هائمًا لا أعلم إلى أين المسير.

«أنا ألبس الخيش.. والبّس حرير لابني»، ما سبق ليس شعارًا ولكنه أسلوب حياة، تأملت في المغزى واكتشفت أن أبي الراحل لم يتمتع بالحياة إطلاقا، وربما اختزل متعته في من حوله، يسعد لتفوق ابن، أو نبأ سعيد لصديق، أو سهرة تجمعه بصديق عمره الذي سبقه إلى الجنة بعدة أشهر.
أبي لم يكن أثرى الأثرياء، ولكنه زرع داخلي قناعة بأني أكثر ثراءً من أي شخص، أبي حمل مسؤولية رفاهيتنا على عاتقه، لا أتذكر أنه رفض لي طلبًا مرفهًا مهما كنت مبالغًا؛ وبالتبعية نمى داخلي شعورًا بالحرص عليه وضرورة تحمل المسؤولية معه، ودائمًا ما نخوض الحوار التالي:- - معاك فلوس يا كريم؟ - أيوه يا بابا - معاك كام؟ - معايا يكفيني (في الواقع أنا لا أمتلك ما يكفيني ولكني أخشى إرهاقه) - طيب خد خلي دول معاك كمان (ويمنحني مالًا مغلفًا بابتسامة راضية تبعث الاطمئنان في النفوس الخائفة) 


******



أبي لم يكن مرفهًا ولكنه لم «يصدعنا أو يتفزلك علينا» بقصص معاناته في الصِغر؛ آثر أن يحتفظ بالألم لنفسه، وألا يؤلمنا بأيام عصيبة عاشها في حياته.


كثيرًا ما كنت ألمحه يتناول دواء احتقان الزور وكنت أسأله: «أنت تعبان يا بابا؟» ليفاجئني بالرد السريع: «لا.. خالص» أكمل أسئلتي بحثًا عن الطمأنينة: «أمال إيه الدواء ده؟» يلبي النداء ويجيب بثقة تبعث الطمأنينة: «أنا بس حاسس إن زوري هيبدأ يوجعني.. فبلحق نفسي».. أبي لم يكن عبوسًا على الإطلاق، ولكن ابتسامته كانت عزيزة مثل دموعه، أتذكر ابتسامته الجميلة التي لم تصل إلى القهقهة، كان يبتسم عند سماع الكلام الطيب أو التفوّه به، كان يبتسم في النقاش الهادئ وعندما يتناول رأيًا لم يعجبه، كان يبتسم عندما يشعر وكأنه يرى ما لا أراه.

ولا أتذكر أني رأيت دموعه أو شعرت بها، فأبي رجل قوي، يخشى علينا من كل شيء حتى حزنه، في أيامه الأخيرة وقبيل إحدى جلسات العلاج الكيماوي، هاتفته وسألته عن صحته، ثم قلت له بجرأة لم أعتد عليها: «متخافش يا بابا وأجمد كده.. إحنا أقوياء بيك». آنذاك رد عليّ بصوته الدامع المتهدج: «الحمد لله يا كريم.. الحمد لله.. مع السلامة يا ابني». كان يتمنى لنا جميعًا السلامة، ولكن سلامتنا لم ولن تكون بدونه. 


******* 



أحدهم قال لي: «الحمد لله على نعمة النسيان»، ولكننا لا ننسى الراحلين.. أتحدث عن نفسي وبلسان كل من يشعر بالفقد، أنا لم أنس أبي، ولن أنساه، قالتها الأديبة أحلام مستغنامي: «أكبر الخيانات النسيان»، وأنا لا أقدر على خيانة ذكراه العظيمة.


في الواقع أحاول الاعتياد على الغياب، أحاول أن أقنع نفسي على مضض إني بخير وعلى ما يرام، ولكن مع أول نداء لكلمة: «بابا».. أشعر وكأني أفتقد الكلمة واللقب، أشعر وكأني بحاجة على ترديدها كثيرًا.

صور كثيرة في الماضي ينقصها وجود أبي، وصور أكثر في المستقبل كُتِب لها عدم الاكتمال نظرًا لغياب أبي، ولكن سيظل أبي بكلماته وبصماته حيًّا داخلي، ستظل نبرة صوته تؤنس وحدتي، وسيبقى عمله الصالح نبراسًا وقدوة أحتذي بها، وسيظل اسمه تاجًا على رأسي أحمله وأتفاخر به وأردده وأسعى أن أكون قدر مسؤوليته، فأنا وبكل فخر ابن الأب المحترم المُربي الفاضل: السيد طه توفيق البكري.


*****



أبي كان بسيطًا للغاية، لم أشعر أنني أسعدته قدر ما شاهدني أتحدث الإنجليزية مع خدمة عملاء المجلس الثقافي البريطاني، وقتها شعرت وكأنه ينظر لي بفخر، ويحصد ثمار استثماره.


كذلك عندما شاهدني أتابع أحد خطابات الرئيس المعزول محمد مرسي، وأسعى لتقديم تغطية صحفية متميزة، فكان يجلس بجانبي ويقترح عليّ العناوين أحيانا ويسألني عن بعض الفنيات في العمل الصحفي، آنذاك طلب مني أن يرى اسمي المنشور على الخبر وابتسم عند رؤيته.. لن أنسى ابتسامته.

وفي جلسة نقاش أخرى، عندما قال أحدهم إن جمال عبدالناصر اضطهد الأدباء والشعراء مثل أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام، فرديت مستنكرًا الصورة غير المكتملة واستشهدت بأبيات الشاعر الفاجومي أحمد فؤاد نجم في مديح جمال عبدالناصر بعد وفاته في قصيدة: «زيارة لضريح عبدالناصر»، فنظر لي أبي بعدما ألقيت نصف القصيدة وقال: «الله ينور عليك يا ابني».. إن كان أنار الله طريقي فحتمًا بفضل أبي.. أبي فقط من قدّس الكتب وعشق الشعر وفجأة وجدت نفسي أقتدي به.. هل خير منه قدوة؟! نوفمبر.. شهر ميلاد أبي، للأسف لا أتذكر أنني أهديته شيئًا، والآن أعاهد نفسي أمام الله أن أهديه أي إنجاز أحققه.

أتذكر في أحد أعياد ميلاده، أرسلت له رسالة نصية عبر هاتفه قلت فيها: «كل عام وأنت إلى الله أقرب وعلى طاعته أدوّم».. ثم شعرت وكأن الرسالة كيليشه، وتذكرت أغنية هشام عباس التي وزّعها حميد الشاعري «الله يسلم حالك»، آنذاك كتبت رسالة جديدة: «كل سنة وانت طيب يا بابا.. ربنا يديمك طيب».

ثم تأملت الكلمات وسألت نفسي هل هشام عباس يقصد «طيب» بمعنى «على ما يرام»؟ أم طيب بمعنى «حنون»؟! في الحالتين، الله يديم أبويا طيبًا (على ما يرام) حتى أصبح أنا بالتبعية على ما يرام، والله يديمه طيبًا (حنونًا) فهو الحنان ذاته، وحنانه لا ينقطع.

الآن أعيش بدون أبي، وأعاتب الدنيا لأنها لم تعطه ما يستحقه ويصبو إليه، كذلك أعاتبها شديد العتاب لأنها استكثرته عليّ، أعلم يا الله أن لكل أجل كتاب، ولكني كنت أتعشم في مشاركته لحظات عديدة.. عمومًا إن الله مع العشمانين.. فلتصبرنا يا رب. 


********* 



في برنامج الفنان أحمد أمين «الفاميليا» الذي يسعى من خلاله لتحسين علاقة الآباء بأبنائهم، يطلب الفنان من الابن والأب كتابة جوابات لبعضهم البعض.


شاهدت حلقات البرنامج وشعرت برغبة في أن أعود طفل ويصحبني أبي لهذا البرنامج لنلعب سويا ونتحدث ونتجادل ونتناقش ونتعاتب ونكتب لبعضنا البعض جوابات طفولية بريئة، ولكن قررت أن أنهي كلماتي بخطاب أعلم أنه لن يصل إلى أبي، ولتسمحوا لي أن أعبر باللغة العامية... جواب.. أبويا الحبيب بكل الاشتياق أكتب لك، كنت أتمنى إن الزمن يكون بيرجع للوراء علشان مكنتش عارف إنك مش هتتعوض والحياة هينقصها حاجة ومش هتكمل غير بيك، كان نفسي أكتب لك أقوللك: «أنا آسف لو مبسمعش كلامك.. آسف لو بزعلك غصب عني.. آسف لو خذلتك وأنا مقصدش.. آسف لو في يوم زعلت أنا منك»، مكنتش عارف إن اللحظة دي هتيجي والسنين هتفوت وهفضل أدوّر عليك في كل حتة وكل مكان وكل حاجة.

كان نفسي تشوفني في حاجات كتير أوي حصلت، والحمد لله طبعا على أقداره لكن أنا كنت طمعان يخليك معايا شوية كمان، شوية بس لحد أنت ما تكون متطمن عليا، أنا عارف إنك مشيت وأنت قلقان عليا، بس متقلقش، أنا كويس.. وعملت حاجات كتير كويسة، وإن شاء الله لسه هعمل حاجات كتير هتكون كلها ليك وبسببك وبفضلك.

زورني دايما في المنام زي ما بتيجي، أنا لما بشوفك بتطمن، مع إني رجعت أخاف تاني الفترة الأخيرة وأشيل الهم بس أنت وهو وهي بتطمنوني أوي.

يا بابا.. ربنا يجمعنا سوا في يوم ما، وإن شاء الله هتكون عارفني وهكون واحشك زي ما أنت أكيد هتكون واحشني. 


ابنك كريم