الثلاثاء، 31 يناير 2017

كيف تكمل الكناريا «زقزقاتها» بعد رحيل سيد حجاب؟


رفض أن تتحول مصر إلى «وسية» وسهر معنا «ليالي الحلمية» وحذرنا من الدنيا الغرورة
رحل سيد حجاب عاشق «حلوة الحلوات»

كريم البكري

ها هي الحياة، تجبرنا على وداع أحد باعثي الأمل، وأصحاب الحكمة.. الرجل الذي عاش مواجها الطوفان، ورفض أن تتحول مصر إلى وسية، وسهر معنا ليالي الحلمية، وحذرنا من الدنيا الغرورة، مات سيد حجاب ونحن مازلنا ندُق بوابة الحياة بالايدين، مات سيد حجاب، وكيف تكمل الكناريا «زقزقاتها» بعد رحيله؟

طالما تمنيت أن يطيل الله في عمر الشاعر سيد حجاب؛ حتى يحظى بالتقدير المناسب له، ونحظى نحن بمزيد من كلماته التي شكّلت وجدان جيلا كاملا اجتمع أمام التلفزيون لا فقط ليشاهد مسلسله المفضل، ولكن ليستمع إلى كلمات سيد حجاب في كل بداية ونهاية.

مات سيد حجاب زاهدا، لم يكن من هواة الظهور الإعلامي أو الجوائز الكاذبة، لم يكن ساعيا لمنصب أو متاجرا بكلماته، لم يستسلم للتشاؤم أو الحزن، ولم ينضم لزمرة لاعني الزمن، بل نسج من كلماته ثوبا دافئا حكيما كلما ارتديناه اشتممنا رائحة مصر، وتعجبنا من فلسفته الخاصة، ورددنا كلمات أغنياته مثلما نردد الأمثال الشعبية.. مات سيد حجاب بعدما أوجز وأنجز ورسّخ كلماته داخلنا.

أسس «حجاب» مدرسته الخاصة في الكتابة، المستندة على بساطة المواطن المصري، والمستنتجة من أوجاعه وهمومه، والراغبة في الطبطبة على قلبه.
حذرنا من السواد والطمع والعناد، وأرشدنا لطريق الرضا، ووقف في وجه الزمان سائلا: ليه مسيبتناش أبرياء؟
وكرر نداؤه في مسلسل «الوسية»، فنحن من «جينا إلى الحياة زي النبات أبرياء – لا رضعنا كدب ولا اتفطمنا رياء - طب ليه رمانا السيف على الزيف؟ وكِيف نواجهه غير بالصدق والكبرياء»، مات سيد حجاب ونحن لازلنا نبحث عن الصدق والكبرياء.
وأوصانا بالمحبة في مسلسل «الشهد والدموع» فقال: «المحبة تفجر الروح فـ الجماد – وبمحبة قلبي هقدر ع الليالي» تلك المحبة التي لم يبخل بها العظيم، وجدناها واضحة جلية في كلماته، ونظراته الصادقة، ونبرة صوته المنخفضة، ووجهه المحمل بهموم غلبتها الابتسامة دائما وأبدا.
لم يكن مجرد شاعر يقدم كلاما مقفيا، ولكنه كان صديقا للقارئ، خاطب شيئا داخلنا جميعا، ورسم على وجهنا ابتسامة، وأجبر العين على البكاء تأثرا به وحزنا على رحيله، ومثلما صادقنا أوصانا على الأصدقاء عندما قال: «آدي يدي مد يدك – يا صديقي قلبي ودّك – ده انت بعد الأهل أهلي – وإن في يوم قلبك ندهلي – هتلاقيني بقلبي عندك – يا صديقي مد يدك»، فكانت دائما يده تنتشلنا من بحار الأحزان، وأشعاره ترافقنا في كل الدروب.
ولم يتعال على القارئ، بل ألقى له دومًا بحبال الأمل والتفاؤل، وقدم له روشته العلاج من الخداع، فكتب: «يااللي اكتشفت إن انت عشت في خداع – وإن ماضي العمر ع الفاضي ضاع – إياك تقول "ملّيت يا دنيا وداع" – ليل الجراح راح – والصباح بعدين وكلنا شاهدين».
سيد حجاب كان مصريا حتى النخاع، ومحبا لوطنه ولثورته ولشعبه، وتغزّل في مصر الصبية الجميلة، ووضع يده على مواطن جمال غائبة عن أعيننا، لم ترصدها سوى بصيرته.

وافتخر بوطنيته ومصريته وعشقه لتراب البلد، وكان حبه للوطن «طوق نجاة لولاه يضيع قلب المُحب الوديع»، ويجهر بعشقه للبلد ويصرخ: «يا حلوة يا بلدنا يا نيل سلسبيل – بحُبك انتِ رفعنا راسنا لفوق».

رحل سيد حجاب عاشق «حلوة الحلوات»، المتأمل في «الوادي والبوادي والبحور والقصور والمواني»، والحالم بـ«دنيا تانية ومصر جنة»، مات من «يطوي الأنين بالحنين».

عاش سيد حجاب شاعرا على باب الله والوطن والناس، ومات مرحوما من الله منتميًا إلى الوطن معشوقًا من الناس، ها هي مركب العمر ترسي بالكاتب العظيم الذي قال: «مين وابن مين؟ الحياة ميهماش أصلك – أصلك بفعلك تواصل فعله ويواصلك»، مات بأفعاله التي ستظل حية، وقصائده التي ستبقى نقاطا مضيئة لا فقط لجيل جديد من الشعراء، لكن لأجيال سترتوي من حكمة وإنسانية سيد حجاب.

«وينفلت من بين ايدينا الزمان - كأنه سَحبة قوس فى أوتار كمان - وتنفطر الأيام.. عقود كهرمان - يتفرفط النور.. والحنان.. والأمان»، وها هو الزمان ينفلت من ايدينا، ونودع عقد الكهرمان، الذي طالما نشر بيننا النور والحنان والأمان.. يا بخت الموت بيك يا عم حجاب.