الأحد، 30 أبريل 2017

يرضي مين ده يا رب؟


كان يومًا تحالفت فيه كافة الظروف حتى تعطلني، اشتقت لنهايته وكأني أتبرع به لقسم الأيام المهدرة في العمر، لم أكن راضيًا عن شيء فيه، كنت أشتاق للجلوس وحيدًا والنوم كأهل الكهف.
وما أن رأيت الساعة أمامي تعلنها الثانية عشر والنصف بعد منتصف الليل، حتى قمت مسرعًا ألحق بآخر قطارات مترو الأنفاق، هذا القطار المستفز الذي يقف في كل محطة دقائق عديدة، أسمع فيها الإذاعة تناشد الركاب سرعة التوجه إلى الرصيف؛ من أجل اللحاق بآخر قطار.

كنت مجبرًا على هذا الخيار، فلسوء الحظ نسيت محفظة نقودي اليوم في المنزل، ولا أمتلك سوى بعض العملات المعدنية التي لن تساعدني في استقلال تاكسي؛ ما زاد من سرعة خطواتي المتجهة إلى مترو الأنفاق.

انتظرت القطار الأخير، وأنا أتساءل بيني وبين نفسي: «متى ينهي قطار العمر رحلته؟ لا أتذكر المحطة السعيدة في حياتي، فقطار عمري يعشق التوقف في المحطات الكئيبة، مللت صخب هذه الحياة وهربت منها إلى وحدتي وعزلتي التي كرهتني، وهؤلاء الذين أشتاق لهم لا أعلم أين أجدهم ولماذا أخذّتهم الحياة وتركتني وحيدًا مغتربًا رغم كوني لست في غربة!

تتغير الأغاني التي أسمعها في أذني ولكني لا أعطيها اهتمامًا، سمعت كل الأغاني ولكنها فشلت في إعادتي لنفسي، فقدَت الكلمات قيمتها في نظري، فكلمات البهجة والموسيقى الصاخبة فشلت في إدخال أي سرور على نفسي مؤخرًا، ولا أستخدمها سوى في نغمة المنبه حتى أستطيع أن أستيقظ وأذهب إلى عملي وأدور في دائرة الحياة المؤلمة من أجل بضع جنيهات فشلت هي الأخرى في جلب أي سعادة حقيقية إلى روحي.

أنظر إلى قُضبيّ قطار مترو الأنفاق، يذكراني بكل شيء كنت أريد أن أصل إليه وظل ماشيًا جانبي لا أستطيع أن أمد يدي وأنتزعه رغمًا عن الدنيا.. كثيرة هي تلك الأشياء التي لم أحصل عليها، كنت دائمًا أقول لنفسي ليس كل ما نتمناه ندركه ونحصل عليه، وأحيانًا أخرى كنت أرد على نفسي وأقول: «ده من خيبتي».

ويبقى السؤال الذي لم أستطع الإجابة عليه، هل الأقدار بيدي أم بيد خالقها؟ وهل كل ما أتمناه يجب أن أحصل عليه؟ ولماذا أبذل قصارى الجهد ولا يحالفني الحظ؟ ولماذا حرية الاختيار لا تكون سوى في الأذى فقط؟!

أخيرًا قطع المترو حبل أفكاري الذي يكاد يخنقني كلما بقيت وحيدًا، دخلت إلى عربة المترو التي كانت فارغة سوى من القليلين، جلست وتأملّت في وجوه الجميع؛ وجدت نفسي أصغرهم سنًا، وربما جميعهم يحسدونني على فترة الشباب، تلك المرحلة التي تحولت إلى لعنة تشبه صراع البقاء على قيد الحياة، جميعنا أصبحنًا كالثور المربوط في الساقية يلف ويلف وهو معصوب العينين، لا يرى سوى السواد ويضطر أن يكمل مسيرته التي لا يعلم لها متى ستتوقف، للأسف نستحق الشفقة لا الحسد.

هربت من التفكير المتمكن مني إلى مقالات جريدتي المفضلة، والتي أحملها في يدي دومًا في هذه المواصلات العامة، ورفعت مستوى الأغاني وانتظرت الوصول إلى محطة «السادات» حتى أترك القطار واستقل واحدًا آخر.

في أول محطة، ركبت طفلة صغيرة لا تتجاوز السنوات الست، ترتدي عباية مزرقشة لا تناسب سنها إطلاقًا، ويبدو عليها الإرهاق، ركبت وجلست أمامي إلى جانب أحد الركاب، توقعت أنها إحدى المتسولات وتذكرت «داليا».. الطفلة التي وجدتها تبيع المناديل في محطة القطار، وظلت عالقة بذهني أبحث عنها وعن ضحكاتها حتى فشلت في إيجاد حل لحياتها فتناسيتها تدريجيًا.

رفعت صوت الموسيقى أكثر واكثر، وقلت لنفسي: «أسمع الأغاني أحسن ما أسمع توسلات كاذبة منها أو من أهلها الذين حتمًا سيظهرون الآن»، ولكنهم لم يظهروا بل وجدتها لا تبيع المناديل ولكن تتحدث مع الشخص الجالس بجانبها ثم الرجل نظر لي وتحدث.

أوقفت الأغاني وانتبهت له عندما قال: «عاوزة تروح المنيب»، قلت له: «لازم تركب الخط التاني مش ده، ومش عارف الخط التاني قفل ولا لسه؟»، فتدخل ثالث وقال: «انزلي يا حبيبتي المحطة الجاية، ولفي عند الرصيف التاني واركبي، واوعي تعدي القضيب اطلعي من ع السلم».

كان القطار يدخل المحطة بينما الرجل لم ينه حديثه، نظرت على الرصيف المقابل ووجدت عدة أشخاص عليه؛ ما يعني عدم مجيء القطار الأخير حتى الآن، وتمنيت من كل قلبي أن تلحق تلك البريئة بقطارها حتى تذهب إلى ملاذها البائس المحتوم، وقف القطار في المحطة ونزلت الطفلة وجدتها تجري ناحية السلم وتنادي على شخص مجهول وتقول: «والنبي يا عم أروح المنيب منين».

كم تمنيت أن أنزل خلفها وأوصلها حتى محطتها، ولكن ما معي من مال لن يساعدني في العودة إلى منزلي متأخرًا، ملعونة هي تلك الظروف التي سلبت منك طفولتك، لم أعلم هل هي جائعة؟ وهل تعرف الطريق إلى بيتها؟ وهل لها بيت وأسرة أم يسيطر عليها مجموعة من البلطجية ويسروحنها؟ هل هي من تلك العاصمة المزدحمة أم من بلدة أخرى؟ هل هي بأمان؟

نزلت الطفلة وتركتنا نتبادل النظرات مستنكرين ما حدث، حتى كسر شخص الصمت وقال: «حسبنا الله ونعم الوكيل.. بلد إيه دي بس.. يرضي مين ده يارب».

وحتى وصلت منزلي.. وحتى اللحظة التي أكتب فيها تلك الكلمات.. أتذكر تلك البريئة التي سكنّت روحي وأتساءل: «يرضي مين ده يا رب؟»

الأربعاء، 5 أبريل 2017

ربما وجدها في الأحلام

 «الوحدة».. ظلام عظيم امتد إلى جذور روحه، تمكّن من كل شيء داخله حتى أماته.
أماته، رغم تلك الأنفاس الباردة، الشهيق الممل والزفير الذي لا جدوى منه.

فقدت الحياة رونقها ومذاقها منذ غابت، فالغائبة كانت روحه التي شاركته كل خطواته، وانفردت بلقب «أول» كل شيء، حتى أصبحت أول غياب وأول رحيل وأول موت.

كان لواقع كلمة «الموت» أثرًا مخيفًا على مسامعه، كان يخشى الموت رغم ثقته في السماء التي لن تخذل عشمه، وكان دائمًا يصلي ويقول: «اللهم إني عشمان.. ومن خير منك أتعشم فيه يا مولاي؟»، ولكنه تمنى تأخر الموت حتى يأكل إلى أن يشتاق لشعور الجوع، ويشرب كثيرًا حتى يقهر هزيمة الظمأ، ويحبها حتى يتعلم الرسم ويرسمها على كل جدران منزله، ويعانقها العناق الحاني الطويل الذي يغنيه عن كل شيء، فيقرر الموت بين أحضانها.
ولكن فقد الموت هيبته منذ أن قررت هي الرحيل ووجد نفسه وحيدًا عاجزًا لا يملك سوى الدموع والذكرى، حينها فقط علم معنى الموت رغم الحياة.

ظن أن حياته ستستمر بعد رحيلها، ولكن اكتشف أن عقارب الساعة لا تحمل في حركاتها حياة، بل أدَمن التأمل في صوتها الرتيب، وظل ينظر لها وهو جالسًا على مقعده المفضل، يضع قدمه فوق الأخرى، يتخيل ملامحه بعد سنوات وقد تجعدت ملامح وجهه، وسقط شعره بالكامل، وانحنى ظهره قليلا، وتغير كل شيء فيه إلا قلبه الذي لن يصيبه الشيب أبدًا.

يبدأ يومه دائمًا بتذكرها، بعد أن يستيقظ على يوم جديد هي ليست معه فيه، يتحرك بخطى ثقيلة ويستمع إلى الموسيقى المفضلة لديهما، ويتحرك نحو حمامه ومطبخه ويحضر فطوره البسيط ويأكل على أنغام أغنياتها المفضلة، ويتساءل: «هل لازالت تسمع تلك الأغنيات؟ أم قطعت صلتها بكل ما يذكرها بي؟ أم تسمعها وتفكر في شيء آخر؟ أم لم تعد تسمع من الأساس مثلما لم تسمع توسلاته قديمًا؟».
وكالمعتاد لا يشغل باله بالبحث عن إجابة للاستفهامات المؤلمة، فهو يرفع شعار «لا أعباء إضافية»، والعبء الأكبر يتمكن منه ويلتهمه تدريجيًا، فأيًا كانت الإجابات؛ الحقيقة الواقعة أنها ليست معه الآن.

وما أن ينتهي من تناول وجبته الصباحية، يحضّر قهوته المفضلة، ويتذكر كم كانت تطمح دائمًا أن تعد له القهوة، ربما تذوق قهوتها من قبل وخيبت توقعاته لكنه ابتسم وقال: «لا بأس.. حتمًا سيأتي يومًا تتقنها».
يرتشف قهوته أثناء قراءة الجريدة الصباحية وتصفح كتابه الذي يقرأه هذه الأيام، وعادة ما كان يرجع إلى كتبه التي أنهاها ليعيد تصفحها مرة أخرى، ويتخيلها تمسك الكتاب ذاته وتقرأ سطوره بصوتها السريع ذو النبرة المنخفضة؛ يتأملها فلا يسمع سوى همهات، ويرى شفاه لم يخلق الله لأنثى مثلها، وقبضة يد تحكم على مقبض المقعد مثلما أحكمت صاحبتها على قلبه.
يقرأ ويقرأ ويندمج في القراءة ومع كل حديث لأبطال الرواية تظهر صورتها على صفحات الكتاب، يتخيلها ما إذا كانت في هذا الموقف ماذا ستقول، هل ستضحك ضحكتها البريئة التي طالما سكنت وجهها؟ أم ستنفعل هذا الانفعال الكاذب الزائل بعد ثوان؟ أم كالعادة ستطبق على شفتيها وتتحمل مزيدًا من الأعباء؟ أم ستنهار وتبكي وتزرف دموعًا لن يستطيع مقاومتها فيجذبها إلى حضنه رغمًا عن الكل والعيون.
يعلم أنها لم تعد تبكي كما كانت قديمًا، كثيرًا ما أشفق عليها من هذا التحول؛ البكاء رحمة تحرم نفسها منها، وما الغريب؟ فهي التي لم ترحم نفسها دومًا.. ولكنها رحمت الكل.
يعلم أيضًا أنها إذا بكت لن تبكي بين أحضانه، لن يضع يده بين خصلات شعرها ويمرر يده الأخرى على وجهها تمسح دموعها، وسرعان ما يزيل هموم التفكير الذي يطارده عن أذهانه، ويتمنى لها الخير فقط.. يتمنى أن تبكي إذا اشتاقت.. يتمنى أن ترحم نفسها مثلما شملته قديمًا برحمتها.

يستعد للذهاب إلى عمله، هذا المسرح الذي يصعد عليه لمدة 10 ساعات يوميًا يؤدي دور الموظف، يتناسى دائمًا التفكير فيها، ولا يشتهي أيًا من النساء الموجودات حوله، وكأنها في غيابها أشبعته عنهن جميعًا مثلما أشبعته عن كل شيء في وجودها، يصدر الأوامر ويوزع ابتسامات المحاباة ويرفع صوته ليتقمص دور القاسي المسيطر، وينظر كثيرًا في ساعته وكأنه سأم الهروب منها، ويتمنى العودة سريعًا إلى شعور الوحدة الذي ينتظره؛ حتى يعاود التفكير فيها مجددًا وتذكرهها بكل آيات الخير والمحبة والجمال.

يرتدي سماعات الأذن، ويغادر عمله، ويستمع إلى قصائد شعرية كررها على مسامعها مرارا وتكرارا، ويُشهد الله دومًا أنها أحبت الشعر من أجله، مثلما أحب هو الدنيا القاسية عليه من أجلها.

يعود إلى منزله، يرتمي بحضن الوحدة مجددًا، ويعتمد على أقل قدر من الإضاءة، ويقلب قليلًا في كتاب الصباح، ثم ينظر إلى التلفاز ويعاهد نفسه أن يفتحه غدًا ليعلم «ماذا حدث في البلد؟»، ولكن الغد لم يأت مثل الغد الذي تعاهدا فيه سويًا على اللقاء والعودة والتقارب مجددًا رغم الصعاب والظروف، ولم يأت أيضا.

يتجه إلى حجرته الخاصة، ويمسك بألبوم صورها الذي اعتاد على تصفحه دائمًا في نهاية الأسبوع، وكأنه يمثل «موعدًا غراميًا» معها يكافئ به نفسه بعد عناء الغياب والحياة لأسبوع كامل بدونها، ينظر إلى صورها القديمة والتي يعيد طباعتها كل فترة حتى يبث الروح مجددًا في نفس ألبوم الذكرى المقدس، وكأنه يصبّر نفسه بالقليل من الصور التي قد تحمل معها قليلًا من الآمال.


لم يعد يعلم هل يلعن الذكرى أم يقدسها؟ يقرأ خطاباتها السابقة، ويجتهد من أجل استعادة نبرة صوتها، ويغلبه البكاء دومًا، فيبكي كما لم يكن يظن نفسه باكيًا، يبكي السنون التي مضت، والفراق الذي حكم، والوحدة التي يعيشها، والعمر الذي لا يعلم كيف يمضي وهي ليست معه.
يبكي الغياب الذي احتل حياته، ويبكى الألوان الباهتة التي خيمت على كل شيء حوله، ويبكي الأهل والأصدقاء والرفاق الذين لم يتمكنوا من قلبه ويجبروه على التصبر أو النسيان.
يبكي كل الطرق التي قُطعت، والأبواب التي أوصدت، والأشعار التي لم تكتمل، والأحلام التي لم تتحقق، والمواعيد التي لم تأت بعد.
يبكي صوتها الذي افتقده، وأخبارها التي انقطعت عنه.
يبكي الحلم الذي اضطر آسفًا مرغمًا على قطع شرايينه وظل يشاهده يتألم وينزف ويغرق في دمه حتى لفظ أنفاسه الأخيرة، ثم بكى حزنًا على رحيله!
يبكي ويبكي ويبكي، وكأن البكاء هو آخر قربان يمتلك تقديمه لها في الغياب.
يبكي، حتى يغلبه النعاس ويقول لنفسه: «قد تأتي غدًا»، ويرد شبح الوحدة على آماله: وماذا لو لن تأتي أبدًا؟
فلا يجد إجابة.. ويخلد إلى نومه، ربما وجدها في الأحلام.