الجمعة، 4 نوفمبر 2016

72 ساعة نقاهة


لم أكن أعلم في هذا الظلام الدامس أنكِ لن تكونِ النور..
لم أكن أعلم في هذه الوحدة القاسية أنكِ لن تكونِ الوَنَس..
لم أكن أعلم أني عليّ الخروج من بحر الأحزان دون أن تكونِ طوق نجاتي..
لم أكن أعلم في هذه اللحظة.. أنكِ لستِ من حقي.


عزيزتي..
الظروف قاسية، والدموع لم تعد دواء، والبكاء أصبح بديلا لمكالماتك الليلية، ها أنا ذا أجلس في ظلام غرفتي، أستمع لموسيقى موتسارت وأرى هموم الدنيا أمام عيناي، أتذكر كل ما لا يجب تذكره في هذه الحين، لقد تمّلك الحزن مني، وسكن الهم بين ضلوعي، وشعرت أني أتنفس بصعوبة، وتركت الدمع يأخذ طريقه ومصيره دون محاولة تجفيفه..

ليا مين غيرك يا قلبي ليا مين؟


كنت تائها وأريدك دليلي، كنت مريضا وأريدك طبيبي، كنت محتاج وأريدك حاجتي.. كنت أنا ولم تكنِ أنتِ

تراكمت أمام عيناي المآسِ، ونبرة صوتك المميزة تتردد في أذناي، تذكرت لقاءنا سويًا عندما ألقيت برأسي على صدرك، وظللت صامتا متشبثا بكِ.. تذكرت يداكي التي أحاطت بي وداعبت خصلات شعري.. تذكرت نبضات قلبك التي طمأنتني كأنها تنبض داخلي.. تذكرت همساتك وأنتِ تقولين: «مالك يا حبيبي».

تذكرت قبلاتك الرقيقة على يدي، وعِناقنا الذي عجز الوقت عن معرفة مدته، وعجزت الكلمات عن كشف براعته، وعجزت أنفسنا عن التخلي عنه.

تذكرتك يا ملاذي.. تذكرتك رغم أني سبب بُعدك وحزنك.. تذكرتك وأنا الذي طالبتك بالابتعاد.. تذكرتك وأنا من تركت الظروف تقصيكي خارج حياتي، تذكرتك وتذكرت كم أنتِ عظيمة وراقية.

لم أتردد في المسك بهاتفي المحمول، والاتصال بكِ.. 11 رقما تحمل أملا في الخروج من النفق المظلم الكئيب.. سأخبرك يا حبيبتي عن كل شيء.. سأشكو لكِ الدنيا، سألعنها تلك الظروف التي أبعدتني عنك.. سأوبخ نفسي مرارا وتكرارا وأطلب السماح، وأنتِ بالطبع ستسامحين مثلما اعتدتك.

«لا يوجد رد».. لن أيأس، فهذه هي القشة التي أتعلق بها، ولكن مجددا «لا يوجد رد»، سأحاول مجددا ثم مجددا وحتمًا سترد.

ها هو صوتها يطمئني.. أنا لست وحدي في عالمي الكئيب، أخيرًا أشعر أني لازلت على قيد الحياة..
           (وفي وسط موجة غضب.. رمالي نجمة وطوق) أنغام – في الركن البعيد الهادي
- ألو
- أزيك عاملة ايه؟
- الحمد لله ازيك يا كريم
لم أستطع الرد.. إنني لست بخير يا صديقتي، أعلم أنكِ لستِ من حقي الآن، وها أنا أختلس المكالمة وكأني أختلس شيئا ليس من حقي، أعلم أنكِ ربما تكونين ملكًا لغيري الآن، ولكني لست بخير.. حبيبك محتاجلك طمنيه..
لم أستطع تحمّيلها بما ليس لها طاقة به.. قلت بكل ثقة وسرعة:
- أنا كويس الحمد لله.. انتِ عاملة ايه؟
- ردت باقتضاب وغضب شديدين: كويسة الحمد لله
- قلت لها بارتباك: أنا بكلمك أسلم عليكي علشان.... (وقمت بسرد كلمات لا أتذكرها) لقد خشيت تحميلها بآهاتي وأوجاعي..
لم أستطع جرحها بأوجاعي، فهي لن تشمت فيّ ولن تتشفى في ضعفي، ولكنها ستشعر باحتياجي لها ولن تبخل عليّ، لكني أخشى عليها من الوجع، كفى ما سببته لها من أوجاع..
- ردت بثقة: «ربنا يوفقك يا كريم»
وكأنها تدعو لي بالتوفيق في حياتي دونها، ولكن أي توفيق يا جميلتي سيلازمني بدونك؟ فأنتِ التوفيق والرحمة والمحبة والعالم بأسره.

لم أجد كلاما أقوله بعد الثوانِ المعدودات التي تحدثنا فيها سويا، وسرعان ما بحثت عن أي مدخل للكلام، كي أمد في عمر راحتي دقائق إضافية.. أريدها.. أريد أن أبكي وأرتمي بأحضانها.. أريدها وأريد كل ما فيها.. أريدها وأريد كل تفاصيلها.. أريد صوتها الحنون، أريد دموعها الصادقة التي تغسل روحي من الداخل، وكلماتها الطيبة التي تطيب جروحي الداخلية، أريد سماع صوت أنفاسها البطيئة الواثقة المستشهدة بكل خير جمعنا في يوم ما.. أريدك يا حبيبتي.

قلت لها: ليه لما بكلمك مش بتردي؟
لترد بمنتهى القوة: «كان الموبيل في ايدي لكني مردتش، مش عاوزة أتكلم معاك».

ها هو الأمل الأخير ينتهي.. ها هو شريان العطف ينزف القطرات الأخيرة في دمائه، والألم يقترب لي حاملا سوطه ولهيبه.. لن أعاتبها، فقلبي لن يتحمل المزيد..

قلت لها في تصبر: «حقك.. انتِ مش بتاعي.. حقك وأنا اللي عملت فينا كده.. حقك.. وشكرا واسف اني اتصلت».
برقتها المعهودة شعرت في صوتي بنبرة كتمان البكاء لتسأل:  «انت كويس؟»
وأرد بثقة كاذبة: «كويس جدًا.. ولكن؟»
وهنا خانتني دموعي، وانهمرت، رافضة التماسك أكثر من ذلك..
لأكمل حديثي باكيا: «أنا حرمت نفسي منك»
وها هي ترد قائلة: «كريم انا بتعب لما بنتكلم، ربنا مصبرني في بعادك، ومقويني في الحياة من بعدك.. مش عاوزة أسمع صوتك كده».
أنهيت المكالمة سريعا مرددًا: «ولا يهمك.. أنا تمام جدًا.. المهم خلي بالك من نفسك، ومش هتصل تاني.. صدقيني مش هتصل تاني»، وأغلقت الخط بعد تبادل السلام السريع، وأنا أكررها لنفسي «صدقيني مش هتصل تاني».


الدنيا تمارس هوايتها المفضلة في إعادة المشاهد مرة أخرى ولكن مع تغيير الأبطال، فهي من بكت كثيرًا وأنا من كنت أمسك الهاتف ولا أرد على اتصالاتها، واليوم أنا أبكي وحدي وهي كما تقول «مرتاحة من غير مكالماتي».

وانتهت المكالمة، وكلماتك تتردد في أذناي، لم أجد لنفسي ملجأ سوى النوم.. نمت ودعوت الله كثيرًا ألا أحلم بها..

24 ساعة.. الأولى
نمت كثيرا، ولم أحلم بها، ولكن هذا لم يمنعني من تذكر كلماتها المؤلمة، وتوبيخ نفسي كثيرًا لما فعلته في حقها، استيقظت من نومي التعيس، محاولا عدم التفكير فيها.. ولكني فشلت
فالحنين تمكّن ومارس سلطته عليّ، وسخّر كل ما داخلي من مشاعر لخدمة أغراضه والتفكير فيها.
تحركت إلى صندوق ذكرياتي الذي أحتفظ فيه بكل خطاباتها السابقة، وبعض القصائد التي كتبتها في حبها، والهدايا التذكارية التي تعاهدنا في الماضي على اصطحابها إلى منزلنا وعدم التفريط فيها إلى الأبد.. وأمسكت ببعض أوراق..

الورقة الأولى
كانت عبارة عن كلمات أغنية «الأماكن»، مجرد كلمات الأغنية دون أدنى تعليق أو توقيع منها، تذكرت هذه الورقة التي أرسلتها مع صحبة رقيقة من الورود، وإهداء رقيق، في محاولة لبناء جسر تواصل بنا، بعدما قررت أنا الابتعاد وكتابة كلمة «النهاية» لعلاقتنا.. ولكني كالعادة فشلت..
ها أنا يا حبيبتي وحدي في تلك «الأماكن» ولكنها هي المشتاقة لكِ اليوم.

الورقة الثانية
كان خطابا رائعًا كما المعتاد، قرأت سطوره وأنا أسمع صدى صوتها في أذناي يردد نفس الكلام، أقسمت في هذا الجواب أنها لم ولن تحب غيري، ولن أجد من يحبني مثل حبها لي، وأكدت على فخرها بشخصي وبكل تصرفاتي الهادفة لتوطيد علاقتنا، وأبدت سعادتها بعودتنا للتحدث مجددا بعدما فشلت في كتابة كلمة «النهاية» لعلاقتنا.

الورقة الثالثة
كانت عملات ورقية من فئة 50 جنيها و20 جنيها، تحملان توقيعها، وتاريخ اليوم، تذكرتها ذلك اليوم وهي ممشوقة القوام في زيها الأسود، وشعرها الطويل الواصل إلى نهاية ظهرها، وتذكرت الشوكولاتة المحببة إلى قلبي التي قدمتها لي إهداءً رقيقا.. وكانت تلك العملات هي "رهانا" بيننا.. أسوأ رهان فزت به في حياتي، فلقد راهنتها على البكاء، وأقسمت أني أستطيع أن أبكيها بكلمات قصيدتي التي كتبتها في بُعدي عنها وأنا محاولا كتابة أحد فصول نهاية قصتنا، وبالفعل قبل أن أصل إلى نصف القصيدة وجدتها تبكي بكاء شديد، وكأنها نادمة على كل لحظة ابتعدنا فيها عن بعضنا البعض..
اليوم يا عزيزتي أشعر بكِ أكثر، لأني في نفس موقفك، فتاريخ توقيعك على تلك العملات يؤكد لي أني أهدرت فرصة لن تتكرر في حياتي المقبلة.


الورقة الرابعة
كان أحد خطاباتك العذبة المعهودة، وكان مكتوبا على ورق أحمر اللون، لم أبالِ شيئا بالخطاب ولكني قرأت الكلمات المكتوبة في نهايته، وهي كلمات أغنية «قلب واحد»
«قلب واحد مش كفاية لحبي ليك، انت محتاج ألف قلب يحس بيك» (مدحت صالح)
وقلب واحد يا حبيبتي مش كفاية لكي يحتوكي، ودموع العينين مش كفاية لكي تدمع فراقك، وألف حضن مش كفاية للتعبير عن احتياجي واشتياقي لكِ.
يبدو أن علاجي ليس في الذكريات، فكل الذكريات تذكرني بمحاولاتي المستميتة لكتابة كلمة النهاية لعلاقتنا، كل الذكريات تزيدني ألما، وأنا منهك القلب، أنا الشريد والتائه واللاجئ والضعيف والباكي والمسكين، أنا لا أتحمل المزيد يا حبيبتي..
حاولت التفكير في كل شيء، ولكني لا أصدق أنك أغلقتي الأبواب بوجهي، ولا أصدق أن النهاية كُتبت بيدك هذه المرة.. سأنام مجددًا، فالضعيف مثلي ليس له ملجأ سوى النوم.
«كان فاضل بس يادوب، إني ألبس توب، بالدنيا وأتوه عنك.. لكن قلبي المغروم، بيخاف ليتوه، في ليالي الشوق بعدك» (محمد منير)

24 ساعة.. الثانية
حِدة الصدمة في طريقها للزوال، كل كلمة قرأتها في خطاباتك يا عزيزتي ذكرتني بمواقفي معك، اكتفيت بجَلد نفسي، ورفضت تحقير ذاتي أكثر من ذلك..
أمسكت بورقة وقلم.. ووجدتني أكتب توثيقًا لمواقفك السيئة التي خذلتي ثقتي فيها، والتي ساهمت بشكل مباشر أو غير مباشر في التقليل من شأني..
كتبت عن مسلسل الأكاذيب الذي استمر عرضه طيلة علاقتنا، وعن التضحيات التي لم تقدريها، وعن كل خطوة مشيّتها في طريق إسعادك وقابلتيها ببرود، وعن كل اتهام ظالم اتهمتني به.. فأنا لم أكن متسلطا ولكني كنت عاشقا وأنتِ لم تقدري عشقي؛ لذا فلتحرمي منه وتعيشي الحياة بدونه.
أنا لا أستحق هذا الجفاء يا عزيزتي، لا أستحق هذه المعاملة القاسية.
أكم من مرة تناسيت خلافاتنا من أجلك؟ أكم مرة بكيت حزنا على بكائك؟ لقد كنت سندك في كل خطواتك يا عزيزتي، اهتمامي بكِ أنساني اهتمامي بنفسي، وضعت نجاحك صوب عيناي، ووضعت شخصيتك داخل قلبي، واعتبرتك استثماري الحقيقي في الحياة.. وأنتِ خذلتيني مرارا وتكرارا..
أنتِ من خسرتي تواجدي في حياتك، أنتِ الخاسرة، وإذا لم أجدك بجانبي في محنتي، حتمًا سأجد من يساندني..
إذا بخلتي عليّ بالتواجد، فالله لن يبخلي عليّ بالتصبر، والحياة لن تبخل عليّ بالسلوى.. شكرًا يا عزيزتي.
«فرأيت أنك كنتِ لي قيدا حرصت العمر ألا أكسره فكسرتهِ، ورأيت أنك كنتِ لي ذنبا سألت الله ألا يغفره، فغرفته».

24 ساعة.. الثالثة

«واكتئابك رد بابك
سيبت كل الناس وغِبت
واللي سابك اسمه سابك
انت عمرك يوم ماسِبت
قهوة تاني
وانسحابك للصور علشان تعاني
ناس كتير ف الصورة مشيوا
وانت مجني عليه وجاني
 تكتشف إنك كإنك كنت منك توهت فيك
 ثم تفهم إن بكره باب وأُكره هييجي بيك» (عمرو حسن - قصيدة الفراشة)

استيقظت، وأمسكت بهاتفي المغلق منذ يومين، لأفتحه، وأجد رسائل الاتصال تتوالى خلف بعضها البعض، وكأنها تشعرني بأهميتي لدى البعض، وسرعان ما تنصبّ عيناي على تاريخ اليوم، لأكتشف مرور يومين بالتمام والكمال على مكالمتك الأخيرة يا عزيزتي.. الوقت استمر في ترحاله، ولماذا توقف الزمن بي عند كلماتك؟

بعد حمام الصباح الدافئ، والقهوة السعيدة، وقطع الشوكولاتة المبهجة، وقفت بين ايدي الله، لأصلي..
الله أكبر..
بسم الله الرحمن الرحيم، بسم إله الرحمة والعطف والسماح، بسم خالق كل شيء مبهج، بسم باعث الطمأنينة في قلوبنا آجمعين، بسم من أبدع في خلقها، وزرع الطيبة نباتا يتغذى على أنفاسها، وجعل دقات قلبها ترنيمات سلام أبدية في حياتي، بسم من أكرمني بمعرفتها، ولم يوفقني في الحفاظ عليها.
الله أكبر..
سبحان ربي الجميل، سبحان ربي الرحيم، فلتغفر لي يا الله إن كنت جارحًا، ولتسامحني إن كنت قاسيا في نقدي، أنت الأعلم بحرصي عليها.. فلتسامحني يا الله إن أضعتها من يدي، ولتعوضها بمن يحرص عليها أكثر مني، ولتجعل الصبر والتوفيق رفاقها في رحلتها، ولتمنحني الصبر من بعدها، وأن تبعد الشيطان عن طريقنا؛ حتى نظل متذكرين بعضنا البعض بالخير.. بالخير والمحبة والمودة والرحمة يا أرحم الراحمين.
الله أكبر..
سبحان ربي الأعلى، سبحان ربي الأعظم، سبحان ربي الأكرم، يا معين يا الله، أخشى الطريق دونها، وأخشى عليها من وعورة الطريق وقسوة الأيام، ولكني أثق ثقة عمياء في حكمتك، أنت تحبها مثلي يا الله، فكن معها، كن معها بكل لحظة، كن معها دائما في اختياراتها وخطواتها وخططها ونجاحاتها وإخفاقتها ورفاقها وأوقاتها، كن معها وإن كان الخير لنا سويًا فالحقنا ببعضنا البعض على خير.
الله أكبر..
السلام منك يا الله، والإيمان بك يا الله، والعودة إليك يا الله.. لا أعلم متى سأراها أو سأسمع صوتها، ولكن حتمًا صلاتي ستصلها، سأصلي لها دائمًا وسأدعو لها بالنجاح والسداد بدوني، سأتمنى لها الحياة مع من تختاره بعدي، ارحمها يا الله من عواصف الحياة القاسية، ارحمها من كل دوامات القدر، واجعلها تتذكرني بالخير يا الله.. آمين

ها أنتِ يا عزيزتي من كتبتِ النهاية بيدك، ربما أكون شريكًا في هذه الكتابة ولكني حتمًا سأتلم بدونك..
3 أيام مضت بعدما قرأت كلمة النهاية بخط يدك، وتلاعبت بي الذكريات، وها أنا اليوم أستطيع التنفس جيدًا، وأبدأ طريق جديد في حياتي بدونك، بغض النظر عمن فينا المتهم الرئيسي، وبدون إلقاء أسباب فشل علاقتنا على شماعة الظروف، فجميع الطرق تؤدي إلى نفس النهاية.. وهي البُعد.
لقد احتجت 72 ساعة نقاهة حتى أستطيع الوقوف مجددًا والتنفس بشيء من الراحة، ولكن ثقي يا حبيبتي أن العمر كله لن يكفني حتى أنساكي.

«هي دموع ولا أكتر
هو فراق ولا أكتر
لو على سبب البعد حبيبي
قلبي كبير ومقدر
إننا ياما حاولنا
نكسب بس خسرنا
واتحكم في مصيرنا
شيء اسمه المتقدر» (واما - هي دموع ولا أكتر)






السبت، 13 فبراير 2016

5 مشاهد لم يكتب لها النشر

مشهد 1
ــــــــــــــــــــــــــــ
22 درجة.. هي عدد سلمات منزلنا الحبيب التي لا أشعر بها على الإطلاق، ودائمًا أردد بعض الأغاني المفضلة لي.. وهذا اليوم الذي دخلت فيه مندفعًا أغني
«فينك.. بيني وبينك أحزان ويعدوا.. بيني وبينك أيام وينقضوا»
لأجده فجأة جالسا في إحدى زوايا السلم.. يبدو أنه سقط؟ أو ربما جلس بخاطره يستريح..
اعلم أن درجات السلم أصبحت عبئا عليه بعد المرض، دائمًا أجده متكئا على عصاه يستقوي بها على لعنة هذا السلم..
لا أعلم ماذا أفعل.. أخشى أن أمد له يدي فأكسر داخله هيبته أمامي.. وأخشى أن أتجاهل الأمر فيشعر بقسوتي.. ولكن لا
هو لن يظن في القسوة.. كيف أكون قاسيا وانا من تربيت على حنيته التي ربما أخفاها خلف قناع من العصبية.. أنا لن أكسره فهو أقوى من أمد له يدي.. هو أقوى من المرض ذاته..
فجأة رحمني من تلك التساؤلات وأشار لي بالصعود وحدي.. لأصعد مكملا: «شجر الليمون دبلان على أرضه» وأنا أقول لنفسي.. كل أشجار الدنيا ذبلت مع ذبولك.
مشهد 2
ــــــــــــــــــــــــــــــ
ظللت أنظر إلى قطرات الدم وهي تسقط في الأنبوب البلاستيكي الطويل، المؤدي إلى وريده؛ في محاولة لنقل دم جديد لجسمه، ربما يحمل آمال أخرى في أنفاس جديدة تضاف إلى عمره..
بطيئة تلك القطرات.. كأن الإنسان لابد أن يتعب ويصبر في سبيل التعلق بتلك الحياة.. ترى هل هو متمسكا بتلك الحياة؟ أم أنه يجري روتين لابد منه؟
كنت ألتمس فيه الصبر والتفاؤل مع كل نقطة، كنت ألمح عينيه وهي تنظر إلى كيس الدم وكأنها تناشده في أن يحمل الخير لجسده.. ولكن نظراته كانت فاترة بعض الشيء؛ كأنه يعلم أن لا مفر من المصير المحتوم والمرتقب..
أنا أشفق عليه من حديثه مع نفسه.. أشفق عليه من الصبر.. وأشفق عليه من الألم.. وأشفق عليه من النهاية.. وأشفق عليه من إِشفاقه عليّ
وفجأة خطف نظرته إلىّ.. ورحمني من تلك الهواجس قائلا: «انزل شوف مكان تصلي فيه العصر يا كريم».
حقا أنا في حاجة للصلاة.. فالدعاء هو الحل الوحيد.. والرحيم هو صاحب القرار..
فليقضي الله أمرا كان مفعولا.
مشهد 3
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
ها هو يجلس في مقعده المخصص، أعلم أنه يتناول علاجا سيزيد من وزنه قليلا، ولكني افتقد صورة وجهه وهو ممتلئا بالدماء.. وتنيره الابتسامة..
ركضت نحوه كأني طفل لم يتجاوز الخامسة من عمره.. جريت تجاهه متجاهلا كل الحضور... لأقبّل يده وارتمي في حضنه..
لا أدري ماذا سأفعل عندما ينتهي مفعول جرعة العلاج الأخيرة ويطل علينا شبح المرض من جديد؟ فليخفف عنك المولى يا رفيق
مشهد 4
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقفت أمام المسجد بعد صلاة الجمعة منتظرا خروجه، أبحث عنه في كل الوجوه، أنتظر أن أراه...
ترى هل سيخونني الحظ ويخرج من الباب المطل على الشارع الآخر؟ لا أعتقد أشعر انني سأراه هنا
تُرى هل خرج من المسجد دون أراه؟ لا يمكن سأشعر بوجوده وسط المئات من البشر..
ها هو يمشي بجوار السور.. مستندا على عصاه ومتجها للمنزل.. جريت نحوه وقبّلت يده واحتضنته.. لأجده يتعلق في يدي ويستند علي
ويقول بصوت خافض: «الحمد لله إني لقيتك»
وأقول بعده في سري: «الحمد لله إنك لقيتني.. زي ما أنا طول عمري بلاقيك»
وأخشى من هذا اليوم الذي لن أجده فيه
مشهد 5
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كنت أتوقع أنني أضعف من أن أراه بعد أن فارقته المنية، لن أراه جثة هامدة، لا أتوقع أنني سأتحمل هذا المنظر.. لا أريده أن يحفر في ذهني..
ولكن عندما دخلت حجرته حاولت أن اتجنب النظر له ولكني لم أستطع.. فتوجهت له ومسكت بيده ودققت النظر في وجهه.. لأشعر أنه مستريحا ومطمئنا ويكاد يكون مبتسما..
الوداع.. أستودعك الله.. لا تقلق عليّ.. هتوحشني
وبين تلك المشاهد عشرات المشاهد التي لم ولن يكتب لها النسيان.. كيف أنساك وأنت بداخلي