الخميس، 30 يوليو 2020

إلى أبي


رغم عشقي للكتابة التي اتخذتها ملجأ ومأوى، وألقيت بهمومي في أحضان السطور والأوراق، وكثيرًا ما هربت من الدنيا وانعزلت محتضنًا دفتري الخاص لأتحدث مع نفسي على انفراد، وأكتب بلا قيود، وأعبر عما بداخلي بكل أريحية، وأرسل رسائل أعلم أنها لن تصل.. بل ربما لن تخرج إلى النور من الأساس، إلا إنني لم أجد ضالتي في الكتابة عن شخصه العظيم الكريم.

واجهت نفسي كثيرًا في ساحات الكتابة، عَبّرت عما يجول بخاطري، لم أهتم بأن أكون مُعلقًا على الأحداث، أو متماشيًا مع رغبات القرّاء والمجتمع، عاهدت نفسي أن أكون «أنا» فقط، وألا أتصنّع فيما أكتبه، وأن أنزع عن نفسي كافة الأقنعة أثناء الكتابة، وعادة ما كنت رحيمًا بنفسي، أوثق خطيئتي ثم أطلق لكلماتي العنان حتى تحنو عليّ، وترحمني في أوساط لا تعرف الرحمة.

كتبت كثيرًا ورهاني على الكتابة كان فائزًا، حتى رحل هو، ورحلت معه أشياء لم أكن أعلم أنها مُجدية ومؤثرة بهذا القدر.. أفتقد صوت خطواته على درجات سُلم بيتنا.. و«رنة الجرس» القصيرة المميزة التي تعقب فتح الباب بالمفتاح، أفتقد ساعته فضية اللون ونظارته الطبية التي كان يرتديها أثناء القراءة، وجلسته الروتينية واضعًا قدمًا فوق الأخرى، وتفاصيل وجهه المميزة المتميزة، والكلمات التي كان يتمتم بها مناجيًا الله عزّ وجلّ: «يا الله يا وليّ الصابرين – إنا لله وإنه إليه راجعون – يا ودود يا رب».


للأسف فشلت الكتابة في علاج هذا الجرح، وفشلت الكلمات والحروف في التعبير عن الحالة النفسية المعقدة التي أمر بها بعد فراق والدي، ففي الواقع لست حزينًا لدرجة تستدر عطف من حولي، ولست تائهًا بين طيات حياتي اليومية فأنا أفعل كل شيء وأحاول تأدية أدواري على أكمل وجه، ولست عاجزًا فأنا أسير وأتحرك وأستطيع الجري أيضًا، ولكن في النهاية أستطيع الجزم بأني أشعر بالفقد والافتقاد.

أفتقد الأب.. هذا الدور الذي أداه أبي على أكمل وجه، الملاذ الذي بيده حل أية مشكلة مهما كبرت، أتذكر والدي حينما كنت مراهقًا في وقال: «القي على كاهلي بأي مشكلة يمكن أن تواجهك، أنت بكل مشكلاتك ومسؤولياتك جزء أصيل فيّ، ولا ترهق نفسك أبدًا بالتفكير في أبعاد أي مشكلة، فقط أطلب من أبيك».

أفتقد الأب.. الذي يمكنني أن ألقي عليه بأية مشكلات أو أزمات مهما كّبُرت أو اشتدت، وكلي ثقة أنه سيكون كفيلًا بها، بل وخير كفيل.. فما الضرر من انفعال وقتي، أو توبيخ لحظي، في مقابل أنه لن يقبل لشيء ما أن يؤرق تفكيري.

أفتقد الأب.. الذي زرع الله بداخله اللهفة الخالصة والمحبة غير المشروطة تجاهي، فالمرء يحتاج حتمًا من حين لآخر أن يعلم مدى أهميته، وأن يلتمس المحبة غير المشروطة.

أفتقد الأب الذي لا ينام قبل وصولي المنزل، ودائمًا ما يطمئن على وضعية نومي، ويبذل قصارى جهده في «أدوار البرد» من سهر وكمدات وتقديم سوائل وفواكه ومتابعة مواعيد الدواء؛ حتى ينتشلني منها سالمًا. والفقد الذي أصابني ليس فقط فقد الأب، بل إني أفتقد «شخصه»، أفتقد السيد البكري، الشخصية الاجتماعية العظيمة؛ التجسيد الحقيقي لمقولة «حب لأخيك ما تحب لنفسك»، فدائمًا ما كنت أجد أبي يهتم بالآخرين أكثر مما يفكر في نفسه.

أفتقد السيد البكري.. المثقف الذي لم يكن يومًا متباهيًا بهذا القدر المهول من الكتب التي امتلكها.. في يوم ما، ذهبت له حاملًا أحد الكتب المنشورة حديثًا، طرأت على ملامح وجهه السعادة والانبهار وكأنه كان ينتظر قراءة هذا الكتاب، ثم سألني: «كم سعره؟».. ثم تبع إجابتي بسؤال آخر: «هل هذه النسخة المضروبة؟ المزيفة يعني؟»؛ فأجبت غير آسف: «نعم.. الأصلية باهظة الثمن»؛ انطفأت السعادة في وجهه، وحل محلها حسرة وضيق، وأغلق الكتاب وحذرني من الانسياق وراء هذه النسخ، وقال لي: «ما يسببه لك الكتاب أكثر بكثير من قيمة المال.. لا تستخسر في الكتاب مالًا يا بني وإن لم يكن معك ما يكفي؛ أطلب مني».

واليوم بعد سنوات طويلة، أجد ثورة المثقفين ودور النشر ضد انتهاك حقوق الملكية الفكرية؛ فأتذكر أبي وكلماته، وأتمنى أن أكون مثقفًا في الجوهر والمظهر والسلوك، مثله تماما.. ولكن هل أستطيع؟ أفتقد السيد البكري.. الذي يمكنني الجلوس أمامه طارحًا أي موضوع للنقاش، وأستمتع بنظرته التحليلية للأمور، وأسعد عندما يترك لي مساحة لأخالفه الرأي، فمن هنا تعلمت أن النقاش غاية في مضمونه أكثر من كونه وسيلة لينتصر طرف على الآخر.

أفتقد السيد البكري.. الذي طالما وجدته متفانيًا في أدوار اجتماعية مرهقة سألت نفسي مرارا وتكرارا عن جدواها.. وفي النهاية أدركت أن أبي لم يستفد شيئا سوى احترامه لذاته ورضاه عن نفسه، ومن ثَم ترك سيرة عطرة تعقب ذكر اسمه؛ لأدرك أن أبي كان بصيرًا بما لم أبصره، أبي نظر لإحياء اسمه بعدما يأتي وقت تنتهي فيه الحياة.

في غياب أبي.. أشعر وكأني «مجبر» على تحمل واقع سيئ، مجبر على الرضا بغياب العمود الفقري لحياتي، مجبر على التنازل عن رغبات كثيرة لي الحق فيها، مجبر على التخلي عن صور ورؤى وأحلام كُتِب لها عدم الاكتمال نظرًا لعدم وجود أبي. 



*****




توفي أبي وأنا أتحسس خطواتي العشرينية، آنذاك كنت طالبًا في كلية ليست ككليات القمة التي فشلت في الالتحاق بها؛ مسببًا بذلك ألم دفين داخل نفس أبي وأمي اللذان لم يقصرا في دعمي على المستوى الدراسي، كل الأشياء التي يجب توفيرها لطالب ثانوية عامة حصلت عليها، دروس خصوصية ومناخ هادئ ومجموعات للمراجعة ومصروفات باهظة وكل شيء، كذلك أشهد الله أنني بذلت الجهد اللازم ولكن في النهاية أتت الرياح بما لا تشتهي السفن، وشعرت كأني خذلت والدي الذي لا يستحق الخذلان في الحياة.


ومع السنة الجامعية الأولى، لم يقف أبي عائقًا أمام رغباتي الجامحة في التجربة؛ فجربت كل شيء.. العمل التطوعي والخدمي، ثم العمل السياسي والانضمام إلى الساحة المكتظة بالآمال والعنفوان فيما بعد ثورة يناير، فضلا عن الدورات التدريبية وكورسات اللغة، إلى أن انتهى بي فيضان الجموح على شاطئ مهنة الصحافة.. فاخترت أن أكون صحافيًا، وعاهدت الله أن أتمسك بالفرصة وألا أهدرها، وعاهدت مديري المباشر أن أعمل بنصيحته: «ادي للمهنة كتير.. علشان المهنة تديلك لو صبرت».

قد يكون صبري تكلل بالنجاح –من وجهة نظري- على المستوى المهني، ولكن حتمًا لم يكلل بالسعادة التي أطمح لها، فحتمًا سلسلة أي نجاح تفتقد الحلقة الأهم؛ ألا وهي وجود أبي ومشاركته، فأبي رحل تاركًا خلفه ابنًا شابًا جامحًا لا يعلم أين الطريق وإلى أين المسير.. أبويا رحل خائفًا عليّ، لم يشهد لحظات نجاح عديدة تمنيته فيها أول المهنئين.

أبي رحل قبل أن يرى اسمي على موضوعات صحفية أفخر بها، رحل قبل أن أكتب مقالا وينشر بمجلة أو جريدة أو موقع إلكتروني، رحل ولم يدرك أنني سأتعرف على ساسة كبار كان يحب متابعتهم عبر التلفاز، رحل ولم يشهدني وأنا كاتبًا في جريدة المقال مع الكاتب إبراهيم عيسى كاتبه المفضل الذي حرص أبي دائمًا على متابعة إصداراته الصحفية، رحل ولم يقرأ حواري مع الدكتور محمد غنيم رائد زراعة الكلى والسياسي المرموق والذي حضرنا له أكثر من ندوة ضمن فعاليات الجمعية الوطنية للتغيير عام 2010، أبي رحل قبل أن أستشيره في أمور عديدة، وقبل أن أناقشه في أمور جدلية وفقهية يرفض المجتمع الحديث فيها، ورحل قبل أن أهديه عملي الإبداعي الأول وأرى في عينيه نظرة الفخر الممزوجة بالانبهار التي طالما حلمت بها.

أدرك تمام الإدراك أن هذه هي سُنة الحياة، ولكنها سُنة قاسية، فأنا لم أتطلع يومًا إلى شيء مادي أو منصب مرموق، كل ما يرهقني حقًا هو ألم الفقد والافتقاد، لماذا كُتب عليّ أن تفتقد كل المتع والإنجازات شيئًا مهما.. لما كُتب أن أفتقد أبي.. نسأل الله الصبر. 


*****



«أب وقال لابنه: تعالى هنا يابني
هقولك كلمتين حافظ عليهم يابني
العمر ولَّى وراح والشيب آتاني يابني
صون حُرمة الناس تتصان حُرمِتك يابني
متجريش ورا الشر ده عقبه ندم يابني
من جاور الحداد يتلسع بناره يابني
مادام أساسك متين هتعلي البُنا وتبني
سِلِمة ورا سِلِمة لغاية ما توصل يا ابني
أنا ألبِس الخيش والبَّس حرير لابني
وأحب ابني أوي إن كان في القسمة غالبني
أنا كل ما أقسى عليه.. حنان القلب يغلبني
واللي عملته في أبويا بكره يخلصه ابني»

في إحدى حفلات فرقة «ناس مكان» للفنون الشعبية والتراثية، جلست متغاضيا عن سوء التنظيم والمسرح الأشبه بـ«حوش غير مكتمل التشطيب»، وسلّمت أذناي إلى الآلات الموسيقية وأصوات الغناء الشعبي المبهجة، التي تحرك الصخر وترسم على الوجه ابتسامة إجبارية جرّاء رشاقة الكلمات واللحن البديع وأداء المطربين الصادق الذي يجعلهم يعزفون ويرقصون ويغنون وكأنهم كُتل فنية متحركة.


إلى أن اصطدمت بالكلمات السابقة، وتوقفت أمام عبارة: «أنا ألبس الخيش.. والبّس حرير لابني»، ثم شعرت وكأن أحدهم كتم الصوت وتجمدت الصورة، تأملت في الكلمات حتى نسيت الحفل، وتبدلت ألوان البهجة بروائح الحنين لأبي الراحل، وحلّ الصمت محل الموسيقى الصاخبة، ولم أدرك شيئًا حتى خرجت من القاعة ووجدتني هائمًا لا أعلم إلى أين المسير.

«أنا ألبس الخيش.. والبّس حرير لابني»، ما سبق ليس شعارًا ولكنه أسلوب حياة، تأملت في المغزى واكتشفت أن أبي الراحل لم يتمتع بالحياة إطلاقا، وربما اختزل متعته في من حوله، يسعد لتفوق ابن، أو نبأ سعيد لصديق، أو سهرة تجمعه بصديق عمره الذي سبقه إلى الجنة بعدة أشهر.
أبي لم يكن أثرى الأثرياء، ولكنه زرع داخلي قناعة بأني أكثر ثراءً من أي شخص، أبي حمل مسؤولية رفاهيتنا على عاتقه، لا أتذكر أنه رفض لي طلبًا مرفهًا مهما كنت مبالغًا؛ وبالتبعية نمى داخلي شعورًا بالحرص عليه وضرورة تحمل المسؤولية معه، ودائمًا ما نخوض الحوار التالي:- - معاك فلوس يا كريم؟ - أيوه يا بابا - معاك كام؟ - معايا يكفيني (في الواقع أنا لا أمتلك ما يكفيني ولكني أخشى إرهاقه) - طيب خد خلي دول معاك كمان (ويمنحني مالًا مغلفًا بابتسامة راضية تبعث الاطمئنان في النفوس الخائفة) 


******



أبي لم يكن مرفهًا ولكنه لم «يصدعنا أو يتفزلك علينا» بقصص معاناته في الصِغر؛ آثر أن يحتفظ بالألم لنفسه، وألا يؤلمنا بأيام عصيبة عاشها في حياته.


كثيرًا ما كنت ألمحه يتناول دواء احتقان الزور وكنت أسأله: «أنت تعبان يا بابا؟» ليفاجئني بالرد السريع: «لا.. خالص» أكمل أسئلتي بحثًا عن الطمأنينة: «أمال إيه الدواء ده؟» يلبي النداء ويجيب بثقة تبعث الطمأنينة: «أنا بس حاسس إن زوري هيبدأ يوجعني.. فبلحق نفسي».. أبي لم يكن عبوسًا على الإطلاق، ولكن ابتسامته كانت عزيزة مثل دموعه، أتذكر ابتسامته الجميلة التي لم تصل إلى القهقهة، كان يبتسم عند سماع الكلام الطيب أو التفوّه به، كان يبتسم في النقاش الهادئ وعندما يتناول رأيًا لم يعجبه، كان يبتسم عندما يشعر وكأنه يرى ما لا أراه.

ولا أتذكر أني رأيت دموعه أو شعرت بها، فأبي رجل قوي، يخشى علينا من كل شيء حتى حزنه، في أيامه الأخيرة وقبيل إحدى جلسات العلاج الكيماوي، هاتفته وسألته عن صحته، ثم قلت له بجرأة لم أعتد عليها: «متخافش يا بابا وأجمد كده.. إحنا أقوياء بيك». آنذاك رد عليّ بصوته الدامع المتهدج: «الحمد لله يا كريم.. الحمد لله.. مع السلامة يا ابني». كان يتمنى لنا جميعًا السلامة، ولكن سلامتنا لم ولن تكون بدونه. 


******* 



أحدهم قال لي: «الحمد لله على نعمة النسيان»، ولكننا لا ننسى الراحلين.. أتحدث عن نفسي وبلسان كل من يشعر بالفقد، أنا لم أنس أبي، ولن أنساه، قالتها الأديبة أحلام مستغنامي: «أكبر الخيانات النسيان»، وأنا لا أقدر على خيانة ذكراه العظيمة.


في الواقع أحاول الاعتياد على الغياب، أحاول أن أقنع نفسي على مضض إني بخير وعلى ما يرام، ولكن مع أول نداء لكلمة: «بابا».. أشعر وكأني أفتقد الكلمة واللقب، أشعر وكأني بحاجة على ترديدها كثيرًا.

صور كثيرة في الماضي ينقصها وجود أبي، وصور أكثر في المستقبل كُتِب لها عدم الاكتمال نظرًا لغياب أبي، ولكن سيظل أبي بكلماته وبصماته حيًّا داخلي، ستظل نبرة صوته تؤنس وحدتي، وسيبقى عمله الصالح نبراسًا وقدوة أحتذي بها، وسيظل اسمه تاجًا على رأسي أحمله وأتفاخر به وأردده وأسعى أن أكون قدر مسؤوليته، فأنا وبكل فخر ابن الأب المحترم المُربي الفاضل: السيد طه توفيق البكري.


*****



أبي كان بسيطًا للغاية، لم أشعر أنني أسعدته قدر ما شاهدني أتحدث الإنجليزية مع خدمة عملاء المجلس الثقافي البريطاني، وقتها شعرت وكأنه ينظر لي بفخر، ويحصد ثمار استثماره.


كذلك عندما شاهدني أتابع أحد خطابات الرئيس المعزول محمد مرسي، وأسعى لتقديم تغطية صحفية متميزة، فكان يجلس بجانبي ويقترح عليّ العناوين أحيانا ويسألني عن بعض الفنيات في العمل الصحفي، آنذاك طلب مني أن يرى اسمي المنشور على الخبر وابتسم عند رؤيته.. لن أنسى ابتسامته.

وفي جلسة نقاش أخرى، عندما قال أحدهم إن جمال عبدالناصر اضطهد الأدباء والشعراء مثل أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام، فرديت مستنكرًا الصورة غير المكتملة واستشهدت بأبيات الشاعر الفاجومي أحمد فؤاد نجم في مديح جمال عبدالناصر بعد وفاته في قصيدة: «زيارة لضريح عبدالناصر»، فنظر لي أبي بعدما ألقيت نصف القصيدة وقال: «الله ينور عليك يا ابني».. إن كان أنار الله طريقي فحتمًا بفضل أبي.. أبي فقط من قدّس الكتب وعشق الشعر وفجأة وجدت نفسي أقتدي به.. هل خير منه قدوة؟! نوفمبر.. شهر ميلاد أبي، للأسف لا أتذكر أنني أهديته شيئًا، والآن أعاهد نفسي أمام الله أن أهديه أي إنجاز أحققه.

أتذكر في أحد أعياد ميلاده، أرسلت له رسالة نصية عبر هاتفه قلت فيها: «كل عام وأنت إلى الله أقرب وعلى طاعته أدوّم».. ثم شعرت وكأن الرسالة كيليشه، وتذكرت أغنية هشام عباس التي وزّعها حميد الشاعري «الله يسلم حالك»، آنذاك كتبت رسالة جديدة: «كل سنة وانت طيب يا بابا.. ربنا يديمك طيب».

ثم تأملت الكلمات وسألت نفسي هل هشام عباس يقصد «طيب» بمعنى «على ما يرام»؟ أم طيب بمعنى «حنون»؟! في الحالتين، الله يديم أبويا طيبًا (على ما يرام) حتى أصبح أنا بالتبعية على ما يرام، والله يديمه طيبًا (حنونًا) فهو الحنان ذاته، وحنانه لا ينقطع.

الآن أعيش بدون أبي، وأعاتب الدنيا لأنها لم تعطه ما يستحقه ويصبو إليه، كذلك أعاتبها شديد العتاب لأنها استكثرته عليّ، أعلم يا الله أن لكل أجل كتاب، ولكني كنت أتعشم في مشاركته لحظات عديدة.. عمومًا إن الله مع العشمانين.. فلتصبرنا يا رب. 


********* 



في برنامج الفنان أحمد أمين «الفاميليا» الذي يسعى من خلاله لتحسين علاقة الآباء بأبنائهم، يطلب الفنان من الابن والأب كتابة جوابات لبعضهم البعض.


شاهدت حلقات البرنامج وشعرت برغبة في أن أعود طفل ويصحبني أبي لهذا البرنامج لنلعب سويا ونتحدث ونتجادل ونتناقش ونتعاتب ونكتب لبعضنا البعض جوابات طفولية بريئة، ولكن قررت أن أنهي كلماتي بخطاب أعلم أنه لن يصل إلى أبي، ولتسمحوا لي أن أعبر باللغة العامية... جواب.. أبويا الحبيب بكل الاشتياق أكتب لك، كنت أتمنى إن الزمن يكون بيرجع للوراء علشان مكنتش عارف إنك مش هتتعوض والحياة هينقصها حاجة ومش هتكمل غير بيك، كان نفسي أكتب لك أقوللك: «أنا آسف لو مبسمعش كلامك.. آسف لو بزعلك غصب عني.. آسف لو خذلتك وأنا مقصدش.. آسف لو في يوم زعلت أنا منك»، مكنتش عارف إن اللحظة دي هتيجي والسنين هتفوت وهفضل أدوّر عليك في كل حتة وكل مكان وكل حاجة.

كان نفسي تشوفني في حاجات كتير أوي حصلت، والحمد لله طبعا على أقداره لكن أنا كنت طمعان يخليك معايا شوية كمان، شوية بس لحد أنت ما تكون متطمن عليا، أنا عارف إنك مشيت وأنت قلقان عليا، بس متقلقش، أنا كويس.. وعملت حاجات كتير كويسة، وإن شاء الله لسه هعمل حاجات كتير هتكون كلها ليك وبسببك وبفضلك.

زورني دايما في المنام زي ما بتيجي، أنا لما بشوفك بتطمن، مع إني رجعت أخاف تاني الفترة الأخيرة وأشيل الهم بس أنت وهو وهي بتطمنوني أوي.

يا بابا.. ربنا يجمعنا سوا في يوم ما، وإن شاء الله هتكون عارفني وهكون واحشك زي ما أنت أكيد هتكون واحشني. 


ابنك كريم

السبت، 3 أغسطس 2019

يوميات رجل غير مهزوم

لم يحدث أبداً
 أن أحببت بهذا العمق
 لم يحدث لم يحدث أبداً 
أنّي سافرت مع امرأةً لبلاد الشّوق
 فأنا في الماضي لم أعشق بل كنت أمثّل دور العشق
 لم يحدث أبداً أن أوصلني حبّ امرأةٍ حتى الشّنق
 لم أعرف قبلك واحدةً غلبتني ، أخذت أسلحتي هزمتني
 داخل مملكتي نزعت عن وجهي أقنعتي
 لم يحدث أبداً، سيّدتي أن ذقت النّار،
 وذقت الحرق
 كوني واثقةً سيّدتي
 سيحبّك آلافٌ غيري
 وستستلمين بريد الشوق
 لكنّك لن تجدي بعدي
 رجلاً يهواك بهذا الصّدق
 لن تجدي أبداً
 لا في الغرب ولا فيالشّرق

عزيزتي.. ما سبق كتبه الزميل نزار قباني بعنوان «يوميات رجل مهزوم»، ولكني أشعر وكأنني قائد منتصر يعيش أعلى لحظات النشوة، يرفع هامته لأعلى شاكرًا الله على انتصاره الذي تجسد في شخصك، يرفع راياته احتفاءً واحتفالا وفخرًا بالنصر، فأنا الفقير انتصرت اليوم في أهم معارك الحياة.

بلى هي معركة، معركة البقاء، أؤمن أن الله خلقنا حتى لا نكون بمعزل عن بعضنا البعض، ولكني للأسف سبق وهويت العزلة التي كدت أدمنها حتى توقعت أيضًا أني سأخسر الحياة بكل ما فيها نظرًا لعزلتي.. مؤلمة هي تلك اللحظات التي كنت أحمل فيها نبأً سارًا أو تفاصيلًا دقيقة أو شغفًا أو مشاركته مع أحدهم.. ولكن كما قال محمد عبدالمعطي حجازي: «كل هذا الزحام لا أحد».

منذ حديثنا الأول، وأنا أيقنت أني وجدت ضالتي في شخصها، أخيرًا وجدت بئر الرحمة الذي سأنهل منه حتى الثمالة، ودّعت الهموم على عتبة بابها، وعاهدت الله أن أتّقيه في علاقتي بها، وفتحت لها باب قلبي بعدما مهدت لها الطريق وفرشته بالورود وزيّنته بالأنوار، وانتظرت.. وما كانت هي بخيلة، بل جادت وأكرمتني وأعطتني ما لم تعطه لأحد من قبلي.

اقرأ الآن يوميات الرجل المهزوم، وإذا كانت تلك هي الهزائم فأهلا بكل هزائم الدنيا، أهلا بها التي أحدثت ما لم يحدث أبدًا، فدائمًا بصحبتها هناك حياة مختلفة..

بصحبتها كل شيء يفتح لي أحضانه ليعانقني ويسعدني ويطيب بخاطري، بصحبتها تختفي آلام الجيوب الأنفية المؤرقة، حقًا لا أتذكر متى هددني هذا الصداع اللعين الذي طالما شكوت منه قديما.. منذ أن عرفتها لم أسقط مغشيًا عليّ كما كنت.. منذ أن أنارت حياتي حقًا لم أتذوق الظلام مطلقًا..  ماذا كنت؟ وكيف تحملت أن أكون؟ لا أعلم، ولكن ما أعلمه وعلى يقين منه أني سكأن بخير فيما «سيكون».

عزيزي نزار..
قالوا عنك شاعر الحب، وكنت دائمًا أقرأ شِعرك وأتمنى أن تأتي المرأة التي تنطبق عليها كلماتك الرقيقة الرحيمة ذات الصور البديعة، تمنيت أن تظهر المرأة التي أخضع لها فخورا، وأقترب منها حانيًا، وأعيش لها خادمًأ، وأبقى بجوارها سندًا ودعمًا، ولكن لم أظن لحظة أن كلماتك غير موفقة.. فجمال حبيبتي فاق الكلمات، فاق الصور الجمالية، فاق المحسنات البديعية، فاق الوصف.. ترى كيف أمتلك هذا الجمال وأصف نفسي بـ«المهزوم»؟ فأنا المنتصر بها.

الأحد، 31 مارس 2019

خواطر ليلية.. مأخوذة عن قصص حقيقية

1- (عن شاب ثلاثيني)عندما أخبرني الطبيب أني مصاب بهشاشة في العظام، شعرت يومها أنه نجح جزئيا في التشخيص، فأنا أعاني من هشاشة في النَفس لا العظام، نفسي أصبحت «هشّة» حقًا، أضعف الصفعات تنجح في كسرها وتترك أثرًا لا أقوى على التعافي منه، نَفسي أصبحت أضعف من الحزن والاشتياق والحب والفراق وأضعف أيضًا من الطموح، أصبحت أشبه بالزجاج الذي أصابه السرطان وانتشر فيه وتمكن منه، وأصبح ينتظر أي صدمة تمثل رصاصة الرحمة وتقضي عليه وتسقطه فتاتًا على الأرض.. حتمًا أنا مصاب بالهشاشة الآن؛ تُرى متى أصاب بالسرطان؟!
2- (عن سيدة خمسينية)الخوف يسري في محيطي كما تنتشر العفاريت في الظلام، لا أعلم مدى حقيقة وجود «عفاريت» ومدى ارتباطها بالظلام، ربما فقط هي محض هواجس ترسخت في ذهني عندما كنت طفلة صغيرة، ولكن الخوف أيضًا حال بيني وبين مواجهة تلك الهواجس، ولكني أعلم يومًا أني سأقف في الظلام وأحدث العفاريت بأعلى نبرة في صوتي وأقول لهم: «أنتم وهم»، ولكني أخشى أن أخاف.
3- (عن فتاة عشرينية)منذ رحل عني وأصبحت أعشق النوم، واعتبرته صديقي الأبدي، أصبحت أكره النظر في الساعة أو السؤال عن التوقيت فكل الأيام أصبحت تشبه لبعضها البعض، النوم أحيانًا يحاربني بسلاح الكوابيس وكأنه سأم صداقتي له، ولكني اتوسل له أن يرحمني ويحتويني مجددًا؛ فربما يأتي في الأحلام.
*«عندما سألتها: تتحدثين عن من؟» قالت: «عن كل شيء اضطررت لتوديعه»
4- (عن شاب عشريني)ربما فشلت في كل شيء، ولكني نجحت في كل ما هو سيئ من وجهة نظرهم، أنا لم أضر أحدًا سوى نفسي، وأنا أيضًا الذي لم أعرف السعادة والنشوى كما عرفتها مع كل تصرف خاطئ وتجربة جديدة، في ليلة القدر الماضية تحمست للذهاب إلى المسجد وخاطبت الله عزّ وجلّ ولكني شعرت أنه لا يسمعني، ربما لأني لم أكن أبكي مثل الشخص التقي الذي وقف جانبي، وربما لأني لم أكن خاشعًا وطالما فكرت في الفتيات اللاتي ارتدين تلك العبايات السمراء الضيقة.
ربما لم أكن خاشعًا ولكن حتمًا أنا الصادق الوحيد ضمن هذا الجمع، فلم أستكمل الركعة الرابعة من صلاة التهجد، وسلمت سلام الصلاة وخرجت، لم أجد ما أريده في المسجد، ولا أعلم إلى أين أنا ذاهب أو متى سأعود للمسجد، أنا توقفت عن التخطيط منذ سنوات.
5- (عن زوجة ثلاثينية)شهادة وفاة المُحبة تصدر من عين حبيبها عندما تشتهي غيرها، لا أستطيع أن أتهمه بشيء لأنه ليس خائنًا، إنها محض نظرات شهوة وإعجاب، لقد انغمست في الحياة والواجبات المنزلية حتى فقدت عملي وأنوثتي وفقدت مظهري وجمالي تدريجيا، تارة بعد تارة أصبحت أشبه والدتي وخالتي واعتبرت رسالتي في الدنيا تقتصر على إدارة شؤون الأسرة، ولكني أفتقد نظراته للبنات المحيطات به، أحتاج تلك النظرة وبشدة، أعلم أن جسدي لم يعد بالممشوق، ربما أيضًا قدرتي الجنسية انخفضت وأصبحت علاقاتنا متباعدة، أصبحت أكره جسدي وأتجنب النظر له في المرآة.
قاطعتها: «لماذا لا تحملينه الخطأ هو؟ ولماذا لا تتحدثين معه بشان تلك الهواجس؟»
ردت بائسة: «الكلام فقد رونقه مثلما فقدت حياتنا رونقها.. وأيضًا تعودت أن أحمل نفسي الخطأ حتى أصبحت تلك هي ميزتي الأخيرة في نظره».

ما وراء الإهداء

الساعة 4.30 فجرًا
ها هي الصلاة المقربة إلى قلبي، أفتخر بنفسي كثيرًا عندما أصلي ركعتي الفجر، أشعر وكأني حققت إنجازًا يستحق الاحتفاء، أستغل كل لحظة حتى أتقرب من الله أكثر، وأتحدث معه بحرية دون قيود بعيدًا عن المجتمع الذي يسيء فهمي.
ما أن أنهيت الركعة الأولى وركعت خاضعًا خاشعًا أسبح: «سبحان ربي العظيم - سبحان ربي العظيم - سبحان ربي العظيم»، ثم هممت أن أدعو لنفسي ولأهلي ولكل من يخطر ببالي، ولكني سرعان ما وجدتني أتحدث مع الله متخليًا عن عباءة الفصحى الوقورة وأقول له: «يارب الهدية تعجبها.. يارب الهدية تعجبها.. يارب الهدية تعجبها.. يارب الهدية تعجبها».
يقطع خشوفي صوت الإمام الذي يقول: «سمع الله لمن حمده»، أتأمل في هذا القول، وأدرك أن الله وملائكته الآن يسمعونني، فأقول: «الحمد لله على نعمة صداقتها.. يارب الهدية تعجبها..يارب الهدية تعجبها»، ثم أقاطع نفسي متعجبًا: «أنت هتخلص الصلاة كلها في الدعوة دي؟»!
آنذاك استكملت الصلاة ساجدًا أصلي: «سبحان ربي الأعلى.. سبحان ربي الأعلى.. سبحان ربي الأعلى.. اللهم أغفر ذنوبنا.. وتقبل صلاتنا.. واشملنا برحمتك يا أرحم الراحمين.. ولا تجعل بيننا مريضًا ولا متألمًا إلا وأنزلت السكينة على قلبه.. ويارب الهدية تعجبها.. يارب الهدية تعجبها.. يارب الهدية تعجبها.. يارب الهدية تعجبها».
الركعة الثانية.. ولكنها ليست آخر الفرص التي سأتحدث فيها مع الله، ما الغريب في دعوتي؟ الغريب حقًا أنني لم أتعجب من نفسي قيد أنملة، لم أقل لنفسي: «ماذا تقول لربك؟».
أنت تعلم يا الله قدر ضعفي، وتعلم أنني أستمد قوتي وصلابتي من المحيطين بي، وتعلم كم تعلمت منها ونظرت لها كمثل أعلى بل وهدف تمنيت أن أصل له، وكمكتبة مليئة بالأسرار والمعلومات والقصص ربما أود الارتماء بين جوانبها متناسيا كل شيء لأنهل ما أستطيع من قيمة.
أنت تعلم يا الله قيمتها في نظري، وها أنا اليوم على مشارف إعداد مفاجأة ربما قد تجدها انتهكت خصوصيتها ووضعتها تحت العدسة المكبرة، ولكنها محض رسالة لأن تكتب وتكتب وتكتب، فهي لابد أن تكتب وتوثق ما تمر به ونحن نقرأ ونصفق ونمتن في صمت.
لذلك.. سأكمل صلاتي داعيًا نفس الدعوة، لقد دعوت سابقًا لكثيرين غيرها، أما الآن فلن أدعو سوى بشيء واحد فقط: «يارب الهدية تعجبها.. يارب الهدية تعجبها.. يارب الهدية تعجبها».
3 كلمات مغلفات بأكثر من 3000 كلمة، فأتمنى أن تكون الهدية هي شريان الأخوة الساري، وعربون المحبة الأبدي، وميثاق الصداقة الممتد، وعسى أن تحمسها مجددًا على الكتابة وممارسة الطقس الأقرب إلى قلبي وحتمًا إلى قلبها.
السلام عليكم ورحمة الله.. السلام عليكم ورحمة الله.

الساعة 10.30 صباحا
أستيقظ من نوم متقطع، أنظر إلى الهاتف منتظرًا رسالتها التي تؤكد فيها الموعد، ولكني لا أجد شيئًا، أحاول أن أنام ولكني أرغب في النظر إلى الهدية مرة أخرى، فتحت الهدية ومررت بعيني على كل السطور والكلمات..
نظرت إلى التاريخ الخاطئ الذي كتبته «يوليو 2019»؛ للأسف هذه الخاطرة مهمة للغاية ولن أستطيع التنازل عنها، ولا أملك وقتًا لأعيد طباعتها، ولا أرغب في تشويه الصفحة وتصحيحها يدويًا.. ماذا أفعل؟!! أين كان مخي وهو يكتب تاريخًا لم يأت حتى الآن!
سأعترف لها، وقد تكون هذه إشارة ودرس من الرب بأن الكمال له وحده، وسأركز مستقبلًا في ألا أقع في هذا الخطأ مجددًا.

الساعة 12 ظهرًا
في طريق القاهرة الزراعي، لم أكن أتخيل سوء الأحوال الجوية، وتوقعت أن صلاتي لم تُقبل، فيبدو أنها لن تكون في العمل اليوم، كيف تقود سيارتها في هذا الطقس؟!
نظرت إلى الهاتف مرة أخرى، فلم أجد منها أية إشارة إلى تأكيد الموعد المرتقب.. نظرت إلى الهدية بين يدي ثم قلت لنفسي: «لا بأس.. سأصلي فجر اليوم مجددًا لأحصل على وقت إضافي وأدعو مجددًا.. يارب الهدية تعجبها».


الساعة 1 ظهرًا
الموعد بات مؤكدًا، فهي وصلت القاهرة بسلامة الله، ها هي ساعات قد تفصلني عن موقف مصيري، إما أن أكون قدمت إهداءً خاصًا، أو أن أصبح ثمة شخص متطفل مُراقب يوثق ما لا يعنيه..
احترت قليلا حتى كدت أسحب الإهداء، ولكني تشجعت ودعوت الله مجددًا: «يارب الهدية تعجبها».


الساعة 3 عصرًا
أسلم على الجميع في عَجَل، أتطلع لإنهاء كل الأحاديث الروتينية، أتهيأ لتقديم الإهداء المصيري، أدخل مكتبها بعد طرق خفيف -أسعى أن يكون مميزًا على باب مكتبها- لأجدها مرهقة، لجزء من الثانية أتأمل ملامحها التي يبدو أنها حُرمت من النوم.
وراء هذا الإرهاق، مشقة عصيبة، أدرك الليالي التي سهرتها كرفيقة لشقيقتها المريضة، وأردك دوامات القلق والتساؤلات التي تدور في ذهنها بشأن حالتها الصحية، أعلم تماما كم تبذل جهدًا لتصبح في غاية القوة والتماسك، قلبي معكِ يا عزيزتي.
ومثلما أدركت هذا القدر من المعاناة، اليوم أدرك فصلا جديدا من الكرم والرُقي، فهي أيضًا عزمت أن نفطر سويًا، واختارت لي فطورًا جميلًا بسيط كما هي.
تشجعت وقدمت إهدائي، ولم أكن أعلم أن الله وملائكته سيجبرون بخاطري هكذا، طالما نظرت للسماء بعد صلاة الفجر وكأني أرى الملائكة تلوّح لي، وفي هذا اليوم كانت الملائكة أكثر من المعتاد.. كذلك كان رد فعلها.. بريء ملائكي بسيط سمح.
سعادتي بلغت بُعد السماء وكِبر البحر مثلما ادعت فيروز، سعادتي لم تكن سعادة مؤقتة أبدًا، كيف لا أسعد وأنا أسمعها تقول إنها تستعيد قراءة المحادثات الخاصة بنا، وأنها ستصنف الهدية كأحد أفضل الهدايا على الإطلاق، وأنها ستشاركني قراءة خواطر خاصة بها لم تفصح عنها للعلن، وأنها ستلبي طلبي وتكتب بل وتسمح لي بأن أهديها دفترًا جديدًا حال أنهت هذا..
شكرًا يا رب.. شكرًا فالهدية أعجبتها.

الساعة 6.30 مساءً
بعدما أنتهي من أحد الواجبات الاجتماعية، أفتح هاتفي لأجد رسالتها تحمل قدرًا وفيرًا من المحبة والود، تكرمني بقولها إننا متشابهين، تبشرني بأننا سنظل صديقين أبديين، يا بركة صلاة الفجر، أعرف كونها صلاة شاقة على قلوب الكثيرين؛ نظرًا لما بها من مجهود واستيقاظ في منتصف الليل.
ولكن على قدر المعاناة تأتي النتيجة، ومثلما تقول هي دائمًا: «هل جزاء الإحسان إلا الإحسان»، تلك الآية الكريمة من سورة الرحمن، وأشهد الله أنها رحيمة كما اسم السورة، ومُحسنة كما تقول الآية، فيا صديقتي العزيزة اليوم عليكِ أن تفتخري بنفسك وتدركين أن جزاء الإحسان لن يكون سوى إحسانا.
فربما يكون إهدائي هو إحسان من المولى عزّ وجلّ لكِ، إحسان يليق بقدرك وكرمك وجهدك ورقيك.
الحمد لله يارب.. الهدية عجبتها.

الساعة 11.30 مساءً
قبيل نهاية اليوم.. أقف أمام رسالتها عاجزًا لا أستطيع أن أرد على هذا القدر من الكرم.. حاولت كثيرًا ولكني فشلت؛ لذلك قررت أن أحكي لكِ جزءًا صغيرًا من كواليس هذا الدفتر.




أشكرك بأسمى آيات الشكر.

الأحد، 10 فبراير 2019

كفاك الله شر الوحدة

(1)
لم يكن عبوسًا على الإطلاق، ولكن ابتسامته كانت عزيزة مثل نِفسه..
«نِفسه عزيزة».. هذا الوصف الذي يلائمه دومًا، فعِزة نفسه كانت أسمى ما يمتلك؛ لم يتسول يومًا شيئًا حتى التعاطف.
كثيرًا ما صليت الفجر معه، وسمعته يدعو الله متضرعًا أن يغنيه عن الناس، ويغنيه بحلاله عن حرامه، ويغنيه عن كل تجربة، ويغنيه عن كل المُتع الزائفة.

(2)
تلك الابتسامة البسيطة التي زيَنت وجهه ذو التفاصيل البسيطة، كنت دائمًا أرى أن الله رزقه وجهًا طيّبًا، ولم لا يرزقه ذلك وهو يقول إن جزاء الإحسان حتمًا سيكون إحسانا.. وذلك الرجل المُخلص لم يكن مُسيئًا قط، فهو أحسن المُحسنين، وحتمًا أحسن الله إليه.
نظر إليّ مُبستمًا ابتسامته التي قد لا تنم عن السعادة، ربما تشير إلى التعجب أو التفكير أو الرضا.

(3)
أطلق تلك الابتسامة، عندما رويت له موقفًا جمعني بشقيقه الذي يكبره بعامين، لم أكن أتخيل أن ثمة حوار قد يحدث بيني وبين ذلك الرجل الوقور، فهو طالما ظل رمزًا روتينيًا بالنسبة لي، اكتفيت بصلة الرحم التي تجمعنا والصورة الوقورة التي فرضها على كل من حوله.
لم أسع يومًا لاكتشاف أسرار ذاته أو التماس معاناته، لم أخطط لأن أخرجه من شرنقته التي فرضها على نفسه، وآمن بها كل من حوله.. حتى ذاك اليوم.

(4)
ذهبت له حاملًا الطعام الساخن، وطرقت الباب الذي لم أذكر متى رأيته آخر مرة، شعرت للحظة بثمة تقصير في أداء الواجبات العائلية، ولكن سرعان ما اختفى هذا الشعور تحت تبرير أن هذه هي الحياة.

(5)
فتح الباب واستقبلني بحفاوة لم تكن في مخيلتي، ربما وجد في شخصي المتواضع صغير السن جليسًا يستهلك معه دقائق اليوم التي حتمًا هي رتيبة في هذا المنزل.
كان وحيدًا في بيته، شعرت أنه فقد كل حواسه فلم يرّ ما حوله من كتب أو ما يُعرض على شاشة التلفاز أمامه، كما لم يسمع الصوت المزعج للسيارات التي استكثرت عليه الهدوء، ولم يشتم رائحة الطعام الساخن التي فاحت في أنحاء غرفة معيشته.

(6)
تجاذبنا أطراف الحديث في كل شيء، الأدب والشِعر والسياسة، والثورة التي أخطأت المسار، والظلم الذي حتمًا سينتهي وينقضي.
تعجبت من الحصيلة الثقافية التي يمتلكها، وتعجبت أيضًا من الموقف ككل.

(7)
استفهامات عديدة دارت بذهني بعد انتهاء الزيارة.. كيف لي أن أناقشه وأناطحه؟ كيف تنازل هو عن رونقه وهالته أمامي؟ كيف كان مُستمعًا جيدًا لكل ما أروي أو أقول؟ كيف اقتنع برأيي الهزيل متناسيًا فارق الخبرة والعُمر؟ كيف كان يمتلك هذا القدر من الثقافة ولم أتعلم منه شيئًا؟ كيف سمح لي بأن أكون شريكه في نقاشات فكرية؟

(8)
عدت إلى منزلي.. ورويت القصة بكل تفاصيلها. لم أخف تعجبي.. كم كانت مفاجأة سارة أن يخلع هذا الوقور عباءة الرسمية ويتحدث لي كصديق من نفس عمره؟ حقًا أنا ممتن لتلك المناقشة التي أتذكر جيدًا أنها استغرقت 60 دقيقة، دارت فيها عقارب الساعة دورة كاملة؛ ذكرتني بضرورة إنهاء اللقاء وتركه لوجبة الغذاء التي افتقدت سخونتها الفاتحة للشهية.

(9)
تمسك أكثر بأطراف عبائته السمراء الصوف، تلك التي اعتدت رؤيتها تحتضنه وتحتويه في فصل الشتاء، ثم أطلق ابتسامته الساحرة وصمت قليلًا وقال لي: «كفاك الله يا بُني شرّ الوحدة».
هي الوحدة.. المشنقة التي تُعلق عليها الأرواح مودعة عالمًا لم يكن هو المرجو، وتاركة كل المُتع الزائفة، وزاهدة فيما تبقى من دقات قلبية تضخ سويعات الحياة في عروق صاحبها.

(10)
الآن.. أفتقد كلاهما؛ الأول ترك عالمنا بجسده وروحه، والآخر عدت للاستسلام إلى وقاره وعزلته الاختيارية.. ولكني أدعي لهما كثيرًا بأن يكفيهما الله شر الوحدة.

السبت، 30 ديسمبر 2017

من وحي الغياب.. 48 ساعة بعد الفراق

   
كأن الشمس لم تسطع في هذا اليوم، وكأن الهواء افتقد أكسجينه، وكأن الألوان كلها أصبحت باهتة، وأضحى كل شيء ذابل يرفض الابتسام في وجهي.


رفضت قدمي أن تخطو، تحاملت على نفسي في كل خطوة مشيتها، وكأني أكافح شلل أصاب روحي وقيّد مشاعري وحركتي بقيد حديدي مُحكم، لم تستطع طاقتي أن تكسره.

بعد سويعات قليلة من النوم، استيقظت لا أتذكر بماذا حلمت، ولا أريد أن أتذكر شيء سواها، كم تمنيت أن أستيقظ على رسالتها الصباحية اليومية، ولكن الصباح لم يأت والشمس لم تشرق ورسالتها أصبحت في علم الغيب.

توجهت إلى دائرة روتيني اليومية المرهقة؛ أملًا في أن أتناسى رحيلها عني، ولكن كأن كآبة الرحيل ارتسمت على وجهي، فكل من شاهدني رمقني بنظرة غريبة تحمل استفهامات عديدة وغالبا أعقبها تساؤل: «ماذا بك يا كريم؟»؛ لأجد نفسي أجيب متسرعًا: «لا شيء»؛ وأحاول ترك المكان أو تغيير الموضوع في محاولة للتأقلم على المستقبل بدونها.

كانت يدي مشلولة عن الكتابة، وعيني لا ترى إلا صورتها، وصوتها يتردد في أذني، وكأني أصبحت أسيرها بعد الرحيل، كل حواسي تجمدت أمامها، وعقلي لم يتوقف عن التأمل والتفكير والمحبة والتذكر.

بعد ساعات من العمل الذي لم أستطع القيام به، جلست في الهواء الطلق هربًا من العيون المتسائلة وأملًا في بعض الهواء المنعش الذي قد يحمل بين طياته فرجًا أطمح له.

تسللت يدي إلى هاتفي المحمول، ووجدتني أبحث في الصور الشخصية، ووجدتها في أول صورة؛ أتذكر هذا اليوم الذي ارتديت فيه زيًا كلاسيكيًا نوعًا ما، واستمعنا لمطربنا المفضل سويًا في مدينتها الجميلة التي ازدادت جمالًا بوجودها، تلك الصورة مر عليها حوالي 5 أشهر، كيف لم ألتقط معها صورًا منذ ذلك الحين حتى اليوم؟ لو كنت أعلم أن صورنا ستكون السبيل الوحيد لتذكرها لالتقطت كل دقيقة صورة.
تذكرت المرة التالية لتلك الصورة، عندما سافرت لها لإنهاء الراحة الاختيارية التي اخترناها هربًا من أزماتنا التي ظهرت مؤخرًا وعرقلت قصة حبنا، هذا اليوم لم نلتقط صورًا وكأننا هربنا من توثيقه، ولكني يا حبيبتي لو كنت أعلم إنها ستكون الزيارة الأخيرة حتمًا كنت سأتعلق بها حتى لا تنتهي.

أعود إلى عملي بائسًا، ولا أستطع الجلوس لأكثر من نصف ساعة أمام شاشة الجهاز المستفزة، أتذكر الليلة الماضية وقسوتها، كنت أنتظر أن تحديثيني وتقولي لي: «أرجوك لا تتركني»؛ أعلم أنكِ تكرهين هذا الأسلوب وتعتبرين تلك الأماني ضغوطًا عليكي، ولكني أبديت رغبة فراقنا بمنتهى العقل وكنت أتعشم في قلبك أن يكبلني ويوقفني ويهديني.

تفشل الأغاني التي تترد في أذني أن تخرجني من حالتي النفسية السيئة، بل أجد نفسي أنسجم مع الحزن تدريجيًا مع كل كلمة: «حب، حياة، فراق، وحشتيني»، وكأن الكلمات الأربعة لم يمثلوا أحد سواكِ، فأنتِ الحب الذي توّج الحياة وما أن لاح الفراق في طريقنا حتى قلت بأعلى صوت وحشتيني.

انتهى العمل، وعلى بعد خطوات من مقر عملي، تفاجئت باتصالات من زملاء العمل يسألوني: «ماذا بك يا كريم؟»، ولا أستطع الإجابة، ولكني أكدت للجميع بأني حزين وكأني لم أذق الحزن من قبل، وطالبتهم أن يطمئنوا، فأنا سأخرج من هذه الحالة قريبًا.. لا أدري كيف ولكن حتمًا سأخرج.

كنت أنظر للساعة كل فترة وكأني أرجو اليوم أن ينتهي، ولا أتذكر كيف انتهى.. ولكني نمت.

في اليوم التالي، استيقظت من النوم لا أنظر في هاتفي ولا أنتظرها، كنت على ما يرام بعض الشيء، ولكن ما أن خرجت إلى العالم الخارجي حتى اكتشفت علتي، فأنا لن أستطيع الاختباء بجرحي وسط الناس.. فجرحي مستمر لحين علاجه باقترابها مجددًا.

في هذا اليوم كانت حفلة مطربنا المفضل، وكنت علقت عليها آمال الخروج من حالتي النفسي السيئة، ولكن ما حدث كان العكس، فكل أغنيات تلك الحفلة كانت أسواط من لهيب تجلد روحي وتوبخني وتذكرني بحلمي الذي لم يكتمل، وعمري الذي لن أتقاسمه معها.
دموعي انهمرت على كل الأغنيات، حتى الأغاني الإيقاعية ذات الأنغام الفرحة لم تتمكن من هزيمة الاختناق الذي تمكن مني، أتذكر هذه الأغنية التي رقصنا عليها سويًا، وأنغام الطبلة التي كنا نعشقها، ودموعي تنهمر مع صقفات يداي اللاتي لم تتوقف على الإطلاق، وكأني أضرب بيدي على وجهي تحسرًا على رحيلها.

ما أن وقف المطرب الشاب على المسرح ليغني تتر المسلسل الذي طالما طالبتني بمتابعته، حتى انغمرت في حالة بكاء شديدة جعلت البعض ينظرون لي ويتعجبون من تأثري..
كنت أسمع كوبليه: «واللهِ فراق الحبايب مُر يوجعني»؛ وكأني أتذوق مرارة هذا الفراق وأشتاق لهذه الحبيبة دونًا عن كل الحبايب.

توجهت إلى منزلي، وأنا أتأمل في صورها، وجدتني في مواجهة صديقي المُقرب الذي سألني: «هل حدثتك؟»
 - قلت له: «لا.. ولكنها إذا قالت لي عود سأعود بدون تفكير».
- إذن لماذا لا تعود من الآن؟
- لأني موجوع، واكتفيت من أوجاعها.
- برأيك من المخطئ؟
- لا أحاول أن أبحث عن جاني ومجني عليه، فهي حالة عاملة لا أستطيع التعايش معها.
- ولكنك تعايشت وحلمت وبدأت تخطو خطواتك نحو الاستقرار.. لماذا لا تكمل؟
- لأني فشلت.. فمنذ شعوري بأني لست الأجمل في عينها وأنا أعتبر نفسي فشلت، ومنذ حِدة حديثها المستحدثة عليّ أعتبر نفسي فشلت، ومنذ وجدنا راحتنا في الغياب اعتبرت نفسي فشلت، ومنذ سألتها: "هل تريدي الفراق.. فردت (لا أعلم)" أدركت حينها أني فشلت.

سأكمل في طريق الفراق يا عزيزتي..
سأكمل طالما لم تجدِ راحتك معي ولم أجد طموحاتي فيكِ..
سأرحل حتى لا أحملك ما لا طاقة لكِ به، وحتى أكون على سجيتي في التعامل لا أرتدي الوجوه أو أتجمّل أمامك..
سأرحل حتى أتخلص من شعور الذنب تجاهك بشأن الأعباء التي ألقيتها على روحك..
سأرحل حتى أتخلص من هاجس الشك الذي ظل يساورني منذ أن بعدنا تدريجيا..
سأرحل حتى لا أضعك في محل مقارنة مع من حولي وأجدك خاسرة..
سأرحل حتى لا أُشعِرك بأنك أقل من طموحاتي..
سأرحل حتى لا تتحسري على عمرك الذي أهدرتيه معي، وتستمعي بكل لحظة في عمرك مع من يشبهونك في الاهتمامات.
سأرحل حتى لا أشك أنكِ قد تحبين غيري.
سأرحل.. لأنك لستِ على يقين بأنك تريدين استكمال طريقيك معي.
سأرحل.. وواللهِ فراق الحبايب مُر يوجعني.

اليوم أنا أفضل مما كنت، ولا أعلم هل سأتحسن أم ستسوء حالتي، ولكن حتمًا سأكمل طريقي.. وأتمنى لكِ حياة رحيمة.

أعشقك.. ولن أندم على كل دمعة انهمرت حزنا على فراقك.

لنا الله في بقية ساعات الفراق.

الأحد، 30 أبريل 2017

يرضي مين ده يا رب؟


كان يومًا تحالفت فيه كافة الظروف حتى تعطلني، اشتقت لنهايته وكأني أتبرع به لقسم الأيام المهدرة في العمر، لم أكن راضيًا عن شيء فيه، كنت أشتاق للجلوس وحيدًا والنوم كأهل الكهف.
وما أن رأيت الساعة أمامي تعلنها الثانية عشر والنصف بعد منتصف الليل، حتى قمت مسرعًا ألحق بآخر قطارات مترو الأنفاق، هذا القطار المستفز الذي يقف في كل محطة دقائق عديدة، أسمع فيها الإذاعة تناشد الركاب سرعة التوجه إلى الرصيف؛ من أجل اللحاق بآخر قطار.

كنت مجبرًا على هذا الخيار، فلسوء الحظ نسيت محفظة نقودي اليوم في المنزل، ولا أمتلك سوى بعض العملات المعدنية التي لن تساعدني في استقلال تاكسي؛ ما زاد من سرعة خطواتي المتجهة إلى مترو الأنفاق.

انتظرت القطار الأخير، وأنا أتساءل بيني وبين نفسي: «متى ينهي قطار العمر رحلته؟ لا أتذكر المحطة السعيدة في حياتي، فقطار عمري يعشق التوقف في المحطات الكئيبة، مللت صخب هذه الحياة وهربت منها إلى وحدتي وعزلتي التي كرهتني، وهؤلاء الذين أشتاق لهم لا أعلم أين أجدهم ولماذا أخذّتهم الحياة وتركتني وحيدًا مغتربًا رغم كوني لست في غربة!

تتغير الأغاني التي أسمعها في أذني ولكني لا أعطيها اهتمامًا، سمعت كل الأغاني ولكنها فشلت في إعادتي لنفسي، فقدَت الكلمات قيمتها في نظري، فكلمات البهجة والموسيقى الصاخبة فشلت في إدخال أي سرور على نفسي مؤخرًا، ولا أستخدمها سوى في نغمة المنبه حتى أستطيع أن أستيقظ وأذهب إلى عملي وأدور في دائرة الحياة المؤلمة من أجل بضع جنيهات فشلت هي الأخرى في جلب أي سعادة حقيقية إلى روحي.

أنظر إلى قُضبيّ قطار مترو الأنفاق، يذكراني بكل شيء كنت أريد أن أصل إليه وظل ماشيًا جانبي لا أستطيع أن أمد يدي وأنتزعه رغمًا عن الدنيا.. كثيرة هي تلك الأشياء التي لم أحصل عليها، كنت دائمًا أقول لنفسي ليس كل ما نتمناه ندركه ونحصل عليه، وأحيانًا أخرى كنت أرد على نفسي وأقول: «ده من خيبتي».

ويبقى السؤال الذي لم أستطع الإجابة عليه، هل الأقدار بيدي أم بيد خالقها؟ وهل كل ما أتمناه يجب أن أحصل عليه؟ ولماذا أبذل قصارى الجهد ولا يحالفني الحظ؟ ولماذا حرية الاختيار لا تكون سوى في الأذى فقط؟!

أخيرًا قطع المترو حبل أفكاري الذي يكاد يخنقني كلما بقيت وحيدًا، دخلت إلى عربة المترو التي كانت فارغة سوى من القليلين، جلست وتأملّت في وجوه الجميع؛ وجدت نفسي أصغرهم سنًا، وربما جميعهم يحسدونني على فترة الشباب، تلك المرحلة التي تحولت إلى لعنة تشبه صراع البقاء على قيد الحياة، جميعنا أصبحنًا كالثور المربوط في الساقية يلف ويلف وهو معصوب العينين، لا يرى سوى السواد ويضطر أن يكمل مسيرته التي لا يعلم لها متى ستتوقف، للأسف نستحق الشفقة لا الحسد.

هربت من التفكير المتمكن مني إلى مقالات جريدتي المفضلة، والتي أحملها في يدي دومًا في هذه المواصلات العامة، ورفعت مستوى الأغاني وانتظرت الوصول إلى محطة «السادات» حتى أترك القطار واستقل واحدًا آخر.

في أول محطة، ركبت طفلة صغيرة لا تتجاوز السنوات الست، ترتدي عباية مزرقشة لا تناسب سنها إطلاقًا، ويبدو عليها الإرهاق، ركبت وجلست أمامي إلى جانب أحد الركاب، توقعت أنها إحدى المتسولات وتذكرت «داليا».. الطفلة التي وجدتها تبيع المناديل في محطة القطار، وظلت عالقة بذهني أبحث عنها وعن ضحكاتها حتى فشلت في إيجاد حل لحياتها فتناسيتها تدريجيًا.

رفعت صوت الموسيقى أكثر واكثر، وقلت لنفسي: «أسمع الأغاني أحسن ما أسمع توسلات كاذبة منها أو من أهلها الذين حتمًا سيظهرون الآن»، ولكنهم لم يظهروا بل وجدتها لا تبيع المناديل ولكن تتحدث مع الشخص الجالس بجانبها ثم الرجل نظر لي وتحدث.

أوقفت الأغاني وانتبهت له عندما قال: «عاوزة تروح المنيب»، قلت له: «لازم تركب الخط التاني مش ده، ومش عارف الخط التاني قفل ولا لسه؟»، فتدخل ثالث وقال: «انزلي يا حبيبتي المحطة الجاية، ولفي عند الرصيف التاني واركبي، واوعي تعدي القضيب اطلعي من ع السلم».

كان القطار يدخل المحطة بينما الرجل لم ينه حديثه، نظرت على الرصيف المقابل ووجدت عدة أشخاص عليه؛ ما يعني عدم مجيء القطار الأخير حتى الآن، وتمنيت من كل قلبي أن تلحق تلك البريئة بقطارها حتى تذهب إلى ملاذها البائس المحتوم، وقف القطار في المحطة ونزلت الطفلة وجدتها تجري ناحية السلم وتنادي على شخص مجهول وتقول: «والنبي يا عم أروح المنيب منين».

كم تمنيت أن أنزل خلفها وأوصلها حتى محطتها، ولكن ما معي من مال لن يساعدني في العودة إلى منزلي متأخرًا، ملعونة هي تلك الظروف التي سلبت منك طفولتك، لم أعلم هل هي جائعة؟ وهل تعرف الطريق إلى بيتها؟ وهل لها بيت وأسرة أم يسيطر عليها مجموعة من البلطجية ويسروحنها؟ هل هي من تلك العاصمة المزدحمة أم من بلدة أخرى؟ هل هي بأمان؟

نزلت الطفلة وتركتنا نتبادل النظرات مستنكرين ما حدث، حتى كسر شخص الصمت وقال: «حسبنا الله ونعم الوكيل.. بلد إيه دي بس.. يرضي مين ده يارب».

وحتى وصلت منزلي.. وحتى اللحظة التي أكتب فيها تلك الكلمات.. أتذكر تلك البريئة التي سكنّت روحي وأتساءل: «يرضي مين ده يا رب؟»