الأحد، 10 فبراير 2019

كفاك الله شر الوحدة

(1)
لم يكن عبوسًا على الإطلاق، ولكن ابتسامته كانت عزيزة مثل نِفسه..
«نِفسه عزيزة».. هذا الوصف الذي يلائمه دومًا، فعِزة نفسه كانت أسمى ما يمتلك؛ لم يتسول يومًا شيئًا حتى التعاطف.
كثيرًا ما صليت الفجر معه، وسمعته يدعو الله متضرعًا أن يغنيه عن الناس، ويغنيه بحلاله عن حرامه، ويغنيه عن كل تجربة، ويغنيه عن كل المُتع الزائفة.

(2)
تلك الابتسامة البسيطة التي زيَنت وجهه ذو التفاصيل البسيطة، كنت دائمًا أرى أن الله رزقه وجهًا طيّبًا، ولم لا يرزقه ذلك وهو يقول إن جزاء الإحسان حتمًا سيكون إحسانا.. وذلك الرجل المُخلص لم يكن مُسيئًا قط، فهو أحسن المُحسنين، وحتمًا أحسن الله إليه.
نظر إليّ مُبستمًا ابتسامته التي قد لا تنم عن السعادة، ربما تشير إلى التعجب أو التفكير أو الرضا.

(3)
أطلق تلك الابتسامة، عندما رويت له موقفًا جمعني بشقيقه الذي يكبره بعامين، لم أكن أتخيل أن ثمة حوار قد يحدث بيني وبين ذلك الرجل الوقور، فهو طالما ظل رمزًا روتينيًا بالنسبة لي، اكتفيت بصلة الرحم التي تجمعنا والصورة الوقورة التي فرضها على كل من حوله.
لم أسع يومًا لاكتشاف أسرار ذاته أو التماس معاناته، لم أخطط لأن أخرجه من شرنقته التي فرضها على نفسه، وآمن بها كل من حوله.. حتى ذاك اليوم.

(4)
ذهبت له حاملًا الطعام الساخن، وطرقت الباب الذي لم أذكر متى رأيته آخر مرة، شعرت للحظة بثمة تقصير في أداء الواجبات العائلية، ولكن سرعان ما اختفى هذا الشعور تحت تبرير أن هذه هي الحياة.

(5)
فتح الباب واستقبلني بحفاوة لم تكن في مخيلتي، ربما وجد في شخصي المتواضع صغير السن جليسًا يستهلك معه دقائق اليوم التي حتمًا هي رتيبة في هذا المنزل.
كان وحيدًا في بيته، شعرت أنه فقد كل حواسه فلم يرّ ما حوله من كتب أو ما يُعرض على شاشة التلفاز أمامه، كما لم يسمع الصوت المزعج للسيارات التي استكثرت عليه الهدوء، ولم يشتم رائحة الطعام الساخن التي فاحت في أنحاء غرفة معيشته.

(6)
تجاذبنا أطراف الحديث في كل شيء، الأدب والشِعر والسياسة، والثورة التي أخطأت المسار، والظلم الذي حتمًا سينتهي وينقضي.
تعجبت من الحصيلة الثقافية التي يمتلكها، وتعجبت أيضًا من الموقف ككل.

(7)
استفهامات عديدة دارت بذهني بعد انتهاء الزيارة.. كيف لي أن أناقشه وأناطحه؟ كيف تنازل هو عن رونقه وهالته أمامي؟ كيف كان مُستمعًا جيدًا لكل ما أروي أو أقول؟ كيف اقتنع برأيي الهزيل متناسيًا فارق الخبرة والعُمر؟ كيف كان يمتلك هذا القدر من الثقافة ولم أتعلم منه شيئًا؟ كيف سمح لي بأن أكون شريكه في نقاشات فكرية؟

(8)
عدت إلى منزلي.. ورويت القصة بكل تفاصيلها. لم أخف تعجبي.. كم كانت مفاجأة سارة أن يخلع هذا الوقور عباءة الرسمية ويتحدث لي كصديق من نفس عمره؟ حقًا أنا ممتن لتلك المناقشة التي أتذكر جيدًا أنها استغرقت 60 دقيقة، دارت فيها عقارب الساعة دورة كاملة؛ ذكرتني بضرورة إنهاء اللقاء وتركه لوجبة الغذاء التي افتقدت سخونتها الفاتحة للشهية.

(9)
تمسك أكثر بأطراف عبائته السمراء الصوف، تلك التي اعتدت رؤيتها تحتضنه وتحتويه في فصل الشتاء، ثم أطلق ابتسامته الساحرة وصمت قليلًا وقال لي: «كفاك الله يا بُني شرّ الوحدة».
هي الوحدة.. المشنقة التي تُعلق عليها الأرواح مودعة عالمًا لم يكن هو المرجو، وتاركة كل المُتع الزائفة، وزاهدة فيما تبقى من دقات قلبية تضخ سويعات الحياة في عروق صاحبها.

(10)
الآن.. أفتقد كلاهما؛ الأول ترك عالمنا بجسده وروحه، والآخر عدت للاستسلام إلى وقاره وعزلته الاختيارية.. ولكني أدعي لهما كثيرًا بأن يكفيهما الله شر الوحدة.